اعتزال أجواء المعاصي
الخطبة الأولى
يقول الله - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (68) [الأنعام].
آية كريمة من كتاب الله -تعالى-تقرر قاعدة شرعية حاسمة في اعتزال الباطل وأهله والمنكر والمعاصي ومجالسها وأجوائها، قاعدة تصون للمؤمنين إيمانهم وتقواهم، فلا تجيز لهم أن يقعدوا بعد الذكرى مع القوم الظالمين، الذين يستهزئون بآيات الله - تعالى-، ويخرقون حدوده، وينتهكون حرماته بالفسق والفجور.
نذكر بهذا عسى أن يتنبه من هم منا في غفوة الجهل والغفلة، ليتفقهوا في دينهم وأحكام شريعته، وليعلموا أن الله - تعالى-إذا حرم شيئاً صار حراماً في كل أحواله، في كثيره وقليله، كبيره وصغيره، وفي كل ما يؤدي إليه، أو يساعد عليه، أو يشارك فيه، أو يساهم بقليل أو كثير، من قريب أو من بعيد، سواء كان بالأقوال أو الأفعال أو الأحوال.
فالواجب على المسلم أن يكون على بينة من الحلال والحرام وحدودهما، عملاً بأمر الله -جل وعلا-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل(43)] وحين تواجهه أمور مشتبهات لا يعلم حكمها، فاجتنابها هو منهج الوقاية والسلامة والاستقامة، كما في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ...)) الشيخان عن النعمان بن بشير.
إن المسلم المؤمن التقي، وقاف عند حدود الله - تعالى -، مستقيم بين الخشية والرجاء، يحل الحلال ابتغاء مرضاة ربه، ويحرم الحرام خوفاً من سخطه وعقابه، وكما يجتهد عازماً في أعمال الطاعات، كذلك يجتهد حازماً في ترك المعاصي، واجتناب المنكرات، فلا يقترفها بيده ولا بلسانه متعمداً، ولا يحضر مجالسها، ولا يساهم فيها بشيء عن علم وإرادة، إلا ما كان منه خطأ.
لكن مع سيادة الجهل بأحكام الدين، وتحكم الغفلة، وضعف الوازع الإيماني الخلقي أصبح كثير من الناس اليوم لا يتورعون عن مجالسة أهل المنكر، وحضور أجواء المعاصي والمناكر، ولا يدرون أن حضورهم معهم مشاركة لهم وتأييداً، وأنهم جميعاً شركاء في المعصية وآثامها، والله - تعالى -يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين).
ولبيان ذلك نأخذ مثال الخمر، وهي من المحرمات القطعية بنص القرآن الصريح والحديث النبوي الصحيح، لا يماري في ذلك إلا جاهل أو جاحد مكابر، فليست الخمر محرمة في شربها فقط، ولكنها حرام في كل ما يتعلق بها أو يساهم فيها بقليل أو كثير، من قريب أو من بعيد، حسبكم في ذلك قول الله - تعالى -: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) [المائدة: 91] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يخبر أن الله - تعالى -لعن الخمر وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها، وآكل ثمنها (أبو داود والحاكم)وفي حديث أخر: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)) أخرجه الترمذي.
ويقاس على ذلك كل مشاركة مادية أو معنوية، فلا يحل لك حضور مجالس الخمر وأنديتها، ويلحق بذلك مجالس القمار، ومجالس التدخين، والغيبة والنميمة، وتتبع أعراض الناس وعوراتهم، والشواطئ المختلطة بالعري والتهتك، وأوكار الفواحش، والأعراس المختلطة بالرجال والنساء المتبرجات بزينة، ومشاهدة البرامج المنكرة بالغناء الفاحش والرقص الخليع واللقطات الماجنة، والقنوات والمواقع الالكترونية الإباحية، ومواسم الشركيات والبدع والضلالات في الأضرحة والمقابر وبيوت السحرة والمشعوذين، وكل المجالس والأماكن والأوضاع التي تنتهك فيها الحرمات، وترتكب المنكرات والفواحش، أو يكون فيها استهزاء بكتاب الله وسنة رسوله أو الطعن فيهما، أو في شيء من أصول الإسلام وثوابته.
أمثلة كثيرة تظهر في واقعنا، لا يدرك كثير من الناس وحتى بعض أهل الطاعة ما فيها من الآثام، ليس بالفعل المباشر منهم، ولكن بالحضور الفعلي والمشاركة المعنوية، فقد روى أنه جيء إلى عمر بن عبد العزيز بنفر كانوا يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقال الأعوان: إن فيهم واحداً ما كان يشرب معهم، إنما كان يجالسهم لأنه صائم، فقال: ابدأوا به، ألا يذكر قول الله - تعالى -: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء، 140] فمن يجالس أهل المنكر والمعاصي في منكرهم متعمدا فهو منهم بالتأكيد ولو لم يقترف ما يفعلون، وهذا حكم الله - تعالى -واضح وصريح (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).
أيها الإخوة الكرام احذروا تلبيس إبليس ومكائده، فإنه يغري بالمشاركة في المعصية ومجالسة أهلها، ويلتمس للنفوس الضعيفة والواهمة ذرائع وأعذاراً لا تليق في جنب الله - تعالى -، وهو أغير على حرماته: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال 25) فالتماس الذرائع والأعذار كالتسامح والمجاملة ورحابة الصدر وغيرها مما قد يتوهمها المرء مبرراًلمجالسة أهل المعاصي، لا تغني ولا تشفع لصاحبها في هذه الأحوال، فلا شيء من ذلك يمنع من تحمل إثم المشاركة، ومن عاشر قوما صار منهم، والمرء مع من أحب و((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) (أخرجه أبو داود) وتعمد الحضور مع أهل المنكر تأييد لهم ورضا بما يفعلون، فمن لم يستطع أن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، أو يغيره بيده أو لسانه، فأضعف الإيمان أن تغيره بقلبه، كما أمر الصادق الأمين، وحقيقة ذلك أن يعتزل المنكر وأهله، عملاً بأمر الله - تعالى -: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين)فالمرء في أفعاله بين أمرين: إما أن يرضي الله - تعالى -فيها بالطاعة، فينال معيته ورضاه، أو يرضي الناس فيها بمعصية ربه، فيوكل إليهم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس)) الترمذي برواية عائشة.
واعلموا أن المغضوب عليهم من بني إسرائيل إنما حقت عليهم اللعنة بمثل هذا، كما في قوله - تعالى -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)(المائدة: 78-79).
أخي الكريم: من الخير لك في دينك ودنياك وآخرتك أن تصاحب الأخيار، وتجالس الأبرار الذين يعينونك على الطاعات، وفعل الخيرات، وهم لك ناصحون، وأن تعتزل الأشرار والفجار الذين يغرون بالفسوق والعصيان، فإنما هم بك وبأنفسهم يمكرون، وإلا فالوحدة أولى لك وأسلم (فالوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة) يقول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينـه *** فكل قرين بالمقارن يقتـدي
وإن كنت في قوم فصاحب خيارهم ***ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.