رجل الثلج
سارة، طفلتي الصغيرة، ذات الأربعة عشر ربيعا، تعشق الثلج لدرجة الهوس، رغم أنه لم يسبق لها أن لمسته بيدها أو رأته بأم عينيها، تعرفه فقط من خلال ألبومات صوري، تحب أن تتمعن فيها باستمرار، تضع الكثير منها في غرفة نومها، على الحائط، بالمحاذاة مع سريرها، فوق المكتب، تشاركها مع أصدقائها على الفيسبوك، وأغلب ما تشاهده على الانترنيت لا يمكن أن يكون إلا مسابقة للتزحلق على الثلج، تهتم بعدة التزلج خاصتي كطفل صغير، طلبها الملح والرئيس:
-" أبي متى سنذهب للتزحلق على الجليد؟" ، وتضيف: عندما ستأخذني إليه يا أبي سأصنع رجلا من الثلج، سأضع له أنفا من جزر وعينين بحبتين من كرز .
-الكرز لا ينمو في فصل الشتاء يا سارة.
-لا يهم أبي سأتدبر أمري، فقط قل لي هل ستسمح لي بصناعته ؟
-نعم سأفعل يا عزيزتي.
عندما ولدت سارة كنت قد أصبحت بعيدا ، بعيدا جدا عن الجبل، مسقط رأسي، في شبابي كان الثلج يتساقط بانتظام طيلة فصل الشتاء، وفي هذه الأعوام المتأخرة أمسىت زيارته للبلاد تتم على استحياء كبير وفي فترات متقطعة، و ينبغي أن تصادف عطلة سارة وإجازتي إذا أردنا أن نظفر بمشاهدته، غالبا ما أبذل مجهودا لأجد فرصة إجازة تحل هذه المعادلة، لكني رغم ذلك لم أتوفق في جعلها تراه، نصل المدينة فنجده قد رحل دون أن يشفق لرحلتنا الشاقة والطويلة.
هذه المرة قررت أن أساعد سارة في تحقيق رغبتها وصناعة رجل من الثلج، حتى وإن تطلب الأمر بعض المغامرة، عزمت على استقصاء أخباره كما يتم تتبع الظواهر الفلكية، تلك التي لا تحدث إلا بعد أجيال متباعدة، رجوت أحد أصدقائي أن يتلفن لي ما إن يشعر أنه سيتساقط بكميات وفيرة.
وصلني الخبر الموعود، قررت أن أنقطع عن العمل وأسرعت نحوها هاتفا:
-سارة غدا ستصنعين رجلك الجليدي.
-كيف ذلك أبي؟
-سناسفر.
-والمدرسة ؟
-إنها تستطيع الانتظار أما الثلج فلا.
الفرحة الهسترية التي اعترت سارة أبكتني وزادت من عزيمتي، قمنا بإحضار جميع المستلزمات التي سنحتاجها للسفر، شحمت السيارة وملأت خزانها بالوقود، جلبت الأكل والمشروبات والملابس الدافئة التي قد تحتاجها، طلبت منها النوم على الساعة الرابعة بعد الزوال، لأننا سننطلق بعد منتصف الليل في رحلة ستمتد لأربعة عشر ساعة من جنوب البلاد إلى وسطها.
عند حلول موعد السفر أفتح باب غرفتي فأجد سارة منتصبة أمام الباب جاهزة للرحلة منذ ساعات، شغلنا محرك السيارة ودفعناها لتأكل الطريق، ما إن ابتعدنا عن البيت ببضعة أميال حتى أخذ المحرك بالزمجرة بصوت غريب، ثم توقفتْ دون أن تترك لي الوقت الكافي لأتحقق من سلامة الصوت، أنظر إلى سارة فأجد عينها حمروتين وتستوكف دمعا حارقا.
-أبي لن أصنع رجل الثلج مرة أخرى!؟
-بل ستصنعينه سارة سنترك السيارة وسنذهب بالحافلة.
فتر حماس سارة، وشرعت تجر رجليها بغير اهتمام، لم اكترث لأمر الخيبة في عينيها، بمشقة كبيرة أعدت السيارة إلى المدينة، وأودعتها في أقرب مرآب عمومي، حملنا الضروري من الأمتعة، وبصعوبة جمة توفقنا في إيقاف سيارة أجرة. في محطة الحافلات الرحلة الوحيدة التي تناسب مواعدنا لا تتوفر سوى على مكان شاغر، وضعت ورقة مالية زرقاء في جيب السائق وترجيته أن يسمح لي بالجلوس في مقعد مساعده إلى أن يشغر أي مكان، فقط عند تحرك السائق عاد الحماس إليها، فَهَمَّتْ بتدوين تفاصيل مغامرتها الصغيرة بفرح كبير على حائطها في الفيسبوك.
كان وصولنا في حدود منتصف النهار، أيقظت سارة النائمة، استفاقت متعبة لكن بحماس غير فاتر.
-هل وصلنا أبي ؟
-نعم يا سارة.
-لكن أبي أين هو الثلج؟
لم أنتبه في بادئ الأمر لمنظر المدينة التي يغيب عنها البياض، كنت مستغرقا في التفكير في أمور أخرى أضعفت تركيزي، توجهت نحو صديقي الذي كان في استقبالنا، استفسرته معاتبا عن أمر الثلج، فأخبرني أن الأمسية الفائتة أمطرت بكثافة فأذابته، لكنه بإمكاني اللحاق به في أعلى الجبل على بعد بضعة كلمترات، طلبت من صغيرتي أن تتبعني وقصدت وكالة لكراء السيارات.
في الطريق كلما اقتربنا من الجبل كلما تهلل وجه سارة، ترى البياض في قمته يمتد لهكتارات كبيرة، فتصف المنظر عبر الهاتف لصديقاتها بصوت مرتفع، تتحدث عن السحاب والأشجار البيضاء، وعن أنواع مصالح الأمن التي تطوق الطريق، من شرطة ودرك وجنود. بالنسبة لي بدا الأمر مريبا، لم أعتد على هذا الإنزال الغريب، في اللحظة التي هممت فيها في عبور مدخل الجبل، أوقفتني مصالح الأمن وهي تؤكد أنه لا يمكنني العبور، قررت أن أمر عبر مدخلا آخر، بدوره كان مغلقا في وجه العموم، منعنا من الدخول دون أن نفهم الأمر، ترجلت من السيارة وأن أتأمل الجبل، لمحت سيارة قادمة من اتجاهه، اوقفتها واستفسرت السائق عن سبب منعنا.
-لا يمكنك الدخول لأن ولي العهد وزوجة الملك يتزحلقون هناك.