في احدى البلاد العربية الـ22 كان هناك شابً عربيٌ متوقفاُ في وسط أكبر الأسواق المكتظة والمزدحمة , بدى غريباً عن الديار رغم اللغة العربية المشتركة , وكما تفعل معظم الشعوب العربية عادةً كان كل من حوله ينظرون إليه وإلى هيئته وملابسه البسيطة وغربته بنوعاً من الكبرياء والغرور والتعالي ويتهامسون فيما بينهم عمن هذا؟ ومن يكون؟ ومن أي أمصار العرب أتى؟ وماذا يفعل هنا؟ وماذا يريد؟
رغم أنه كان يتجنب النظر والألتفات إليهم وعدم الأحتكاك بهم لكنه يشعر بهم ويسمعُ تهامسهم ويرى نظراتهم التي تكادُ تأكله حنقـاً وكأنهم يرون عدواً أمامهم , قليـلاً قليـــلاً وسط كل تلك الحشود والجموع الغفيرة بدأت تنتابه حالة متناقضة بين الغضب والتوتر والخوف وفي موقف لا يُحسد عليه ونظراتهم وهمساتهم واستفزازتهم تتصاعد شيئا فـ شيئاً مع كل دقيقةً تمر ,
هم كثر وفي بلادهم وهو لا يستطيع أن يفعل لـهم شيء أو حتى النظر إليهم , فـ هو غريبٌ عن المكان وحيداً لا عشيرة لا أهل لا أصدقاء لا أحد , كان فقط بليغ اللسان أديباً يمتاز بالفصاحة وقوة الكلام , وبين هذا وذاك وكل الموقف والتوتر والأحتقان كان كـ من يسنُ السيوف ويشحذ سكاكينه عليهم .. فـ صاح فيهم خطيباً يقول :
قد لا تعرفوني أو لا تريدون , فـ ليكن أو لا يكون , أو حتى عساهُ يكون , فـ أنتم في عالمي لا أحد تكونون , أنتم نكرةً منبوذون , مجرد عالةً على المجتمع تعيشون , تحبون الذي تشاؤون , وتكرهون من تشاؤون , أكان غبياً قبيحاً مثلكم أو متعلماً مثقفاً عكسكم , فـ حينما يحترمكم أحدٌ تذلونه وتظنون أنفسكم شجعانً لا تهابون , وحينما يأتي من يتسلط عليكم هنــا تصمتون خائفون , وتبررون بإنكم مسالمون , في كلتا الحالتين أنتم حمقى مجتمعون , جميعكم جاهلون , كيف لا ونحن من أمةً على بعضهم يحقدون , فــ الأمم متقدمون ونحن في الخلف متأخرون , لقد جعلتم من القتلة والسفاحين أبطالاً محاربون , ولكن صدقوني أنتم على ذلك مجبرون , ليس ذكاءً منكم أو طيبةً بل مرغمون وبائسون , أخبروني خلاف ذلك أن كنتم تستطيعون , حدثوني لو تجرؤون , لكنكم لا تقدرون ,
عندما تنظرون إلي وإلى ما أقول تستمعون , فأنتم لا تشاهدونني بل أنفسكم في المرآة بقبحها وقذارتها تشاهدون , نحن أنانيون , ومع بعضنا وقحون , ومع العدو مهذبون , والجميع لا يفهمون , سفهاء الأمة مشهورون , بينما العلماء لـوحدهم تائهون , بين بعضكم بالألقاب تتنابزون وتتلاعنون وتتشاتمون , لغيركم الخطأ تنسبون , أحقادكم ومخاوفكم وغروركم وأنانيتكم كل شيئاً غيركم عنه مسؤولون , لا أدري , ربما حتى طيش أبناءكم على غير ابناءكم طيشهم ترمون , فـ الجميع يحاول أن يكون جميلً حتى لو دمر المقربون , أهذا ما لأجله تعيشون , أرجوكم , فـ ليخبرني أحدكم عكس ذلك أو أخرسوا ولا تتكلمون ,
اغبياء سطحيون , تصدقون كل ما تقرؤون وتسمعون , تصدقون الأكاذيب ولا تدرون , بئسـاً لكم ولما تشاهدون , فـ من يبكي ملاكٌ مسكين تظنون , ومن يضحك إبليسٌ لعين تعتقدون , تلك السخافات ترسخت في عقولكم وعلى هذه السخافات تعتمدون , وحينما يصارحكم أحداً بالحقيقة بما تجيبون , أنك عميل للشيطان أو كارهٌ أو أحد المتآمرون , اللعنة وعليكم من اللعن ما تستحقون , الا تستحون , الا تخجلون , مجتمعاً يعيش على التقاليد البالية وغيرنا إلى القمر مسافرون , الجديد تلبسون , الموضة بكل صرعاتها وصيحاتها ترتدون , تختبؤن خلف رادءكم فـ أصبحتم أرخص ثمناً مما ترتدون , ليته ذاك فحسب , بل ذهب وفضة ومجوهرات تقتنون , وأجهزة حديثة تشترون , هذا حقٌ مشروعً لكم وأنتم في هذا محقون , ولكن الا تتفاخرون , فـ لأجل ماذا الكبرياء إذاً أخبروني أم أنا أخبركم تريدون , لكي تقنعون أنفسكم بعكس ما أنتم به مقتنعون , لتتباهون أمام أصدقاءكم بما تملكون , فهذا أقصى ما إليه تطمحون , هذا الذي لأجله مبادئكم تبيعون , ولكن حينما يكون الداخلُ قبيحٌ فـ الظاهر لا يمكن جميلً أن يكون ,
تظنون أنفسكم ملائكةٌ طاهرون , ولكنكم في الحقيقة مع الشياطين متشابهون , أنظروا بداخلكم وخطأكم ستعرفون , من كان سبب بلاءكم ستكتشفون , من الذي تسبب بجهلكم ستعلمون , فـ تخلفكم أنتم عنه مسؤولون , فـ من يسرقكم له تبررون , من يتلاعب بكم له تتعذرون , من يغشكم له تتبسمون , ويحكم , حتى من أرتكب جرماً له أبواباً تفتحون , ثم تسألون وتتسائلون , لما ولمــا يحدث لنا كل ذلك , ألا تعلمون , بعدُ ألــم تفهمون , القبيح بداخلكم ألم يجيب عما تسألون , حدثوني , لما أنتم صامتون ,
حتى أنفسكم أنتم لـها ظالمون , فـ لا ضميركم تخاطبون , ولا مع ذواتكم تجلسون , وأنتم في الطريق ضائعون , تقلبون الحقائق وتؤلبون , الذي يهمكم الا يقولوا عنكم آثمون , كـ ملائكة وصفتم أنفسكم بصفاتها بمعنى أنكم لا تخطئون , كيف لا تخطئون وكل البشر خطائون , وخير الخطاؤون التوابون , ولكنكم ستقولونها يوما ما وستقولون , لكنكم تقولونها بعد أن تندمون , تقولونها وبعد المرارةِ تبكون , لأنكم من يستهزؤون , فـ كل ما سيحصل عليكم ويجري بكم أنتم به متسببون , وبأيديكم الجريمة تقترفون , ستصرخون وتصيحون نحن المجرمون والمرتكبون والمذنبون ,
وبعد أن أنهى خطابه أنشقت له صفوف المتجمهرين الذين أعجبت الخطبة بعضهم بعدما فهموا كل ما فيها وكل تفاصيلها ومعانيها دون تشويش , والبعض الآخر أُعجب فقط بقوة فصاحته وبلاغته , وبقية المتجمهرين تعددت ارأهم وتوزعت بين الذي فهم شيئا منها ومن فهم بعض الجمل والمعاني وبين من لم يفهم أي شيء وبين الذي أُعجب بطريقة ألقاءه القوية ومنهم من أعجبته فقط تراتيب الجمل , غادر بعدها البلاد ولم يرجعهــا مرة أخرى ولم يسافر بعدها إلى أي دولة عربية .
|