لفّ الأزرق المكان ، كان صمتا أزرقا بطعم الملح
تنحنح أحد الثّلاثة ، أطلق تنهيدة ، كان لابدّ من كسر جدار الصّمت هذا .
قال : في صغري كنت اذا شعُث شعري و استطال أغيب عن المدرسة ، أكدح يوما ، أعمل في الحقول او على رصيف الميناء ، ألمّ الدّرهم و الدّرهمين ، ثمّ انطلق الى "قادة" حلاّق القرية ، كنت أطلب منه في كل مرّة أن يرسم لي خطّا على رأسي فيقول : أيرضاها والدك ؟ أجيبه باقتضاب: فلينشغل برأسه الثمل و ليترك رؤوس النّاس للنّاس .
ضحكوا ، إذ كان لابد من ردّة فعل ، أكمل أوسطهم : أمّا أنا في صغري ، فالويل لي إن بلغ مسامع ابي أنّي غبت عن المدرسة ، أرادني أن أدرس و درست ، تعلمنا سويا فكّ الحروف و جدول الضّرب ، لكنه توفق عند الكسور لم يستطع الاكمال ، أمّا أنا فواصلت ، إلى أن اِستطعت حساب الحروف بدل الأعداد ، كان يقول : قد طال شعرك ألا تحلقه ؟ ثم يعطيني فوق ثمن الحلاقة ما يكفي لشراء خمس علكات .
أشعرتهم الكلمات بمهابة الرجل الذي يحكي عنه ، لم يكن هناك مجال للضحك بل فقط وقفة إجلال و رفع قبعة ، لكن لم يسعفهم الوقوف و لم يكن هناك قبعات لترفع .
علت ابتسامة ميتة ثغر الثّالث ، شعر أن ليس لشعره الجميل المنسدل حكاية ، لكنه تناول القرص الرابع كي بمنع دوار البحر و تكلم : كنت آخذ النقود الورقية من الدرج ، اخترت دائما ذوات الرقم الأكبر ، أنتشل بعدها رفيقا من رفاق السوء نعرج معا نحو المدينة ، نشتري سجائر غالية ، كنت اتظاهر بمقدرتي على اسكان الدخان في صدري لكن السعال دائما ما كان يفضحني ، بعدها اقصد حلاقا رفيعا أعرفه ، من ذلك النوع الذي يمكنك مطالعة مجلة و انت تنتظر ، كانت التسعيرة لديه بثلاثة اضعاف لكن ذلك لم يشكل فرقا ، لم يهتم أبي يوما لشأن الدرج ، و لم يهتم لشأني، و لم يهتم لشأن أمي التي أنهكها ذلك المرض حتى انتزع منها روحها انتزاعا . زاد حنقه و ارتفع صوته ، و بين جفونه عَبارات تأبى السّقوط ، أكمل : يوم انتهى كلّ شيء بالنّسبة لي منعني من الذهاب الى الضّفّة الأخرى ، لكنّي صرخت في وجهه "سوف أذهب ... حتّى إلى الجحيم "
توقّف ، علم أنّه أوغل في الحديث عن شَعره ، أخذ قرصا خامسا و همّ ببلعه ، قاطعه أوسطهم : لا تقلق لن تصاب بدوار البحر ما دام القارب يتحرك ، فقط السّكون ما يجلب العاصفة .
لَفَّهُم الصّمت ثانية ، كان صمتا أزرق بطعم الملح و الأسى هذه المرّة .