السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
.
.
صوت المقرئ القوي والشجي يملأ جنبات الصالة الغاصة بالمعزين ويتناهى إلى مسامع الساهرين على الأسطح والشرفات المجاورة، جلست أراقب أفراد عائلة الفقيد المصطفين لتقبل العزاء، يتقدمهم صديقي القديم جهاد، الذي لم أره منذ سنين بسبب عملي الجديد. بعد انتهاء التلاوة، قمت مغادراً وضعت يدي بيده متمتماً بكلمات التعزية المعتادة جذبني إليه وضمني مقبلاً خدي هامساً(لا تغادر فبعد قليل ينتهي العزاء) وافقت دون تردد وجلست بجانبه، وقد حضرتني صورة المرحوم المحفورة بذاكرتي نظراً للاحترام الكبير الذي كنت أكنه له، كما كل أهل البلدة.
كان المرحوم أبيض اللون متين البنية طويل القامة، دائم الأناقة بطربوشه الأحمر الذي كان يجعله يبدو أكثر طولاً (قبل أن يتخلى عنه ويستبدله بالقلبق) كان يدعى في البلدة بالتاجر الأحمر. برغم أنه لم ينتم يوماً إلى أي حزب سياسي، إلا أن ما كان يبديه من إعجاب بستالين الذي حول هزيمة الجيش الأحمر في بداية الحرب العالمية الثانية إلى نصر كاسح في نهايتها، وترديده دائماً لعبارة (أنا من مواليد 19177 الذي كان عاماً مباركاً للإنسانية، ففيه قامت ثورة أكتوبر [تشرين الأول]) كان كافياً لصبغه بالأحمر، وهو ما جعل بعض الشيوعيين في البلدة أصدقاء له، ومع أنه لم يعرف مدرسة قط، وكل ما حظي به من تعليم، انحصر في بضع جلسات تحت شجرة في القرية تعلم فيها القراءة والكتابة،فقد ثقف نفسه بنفسه من خلال كثرة المطالعة، وأصبح لديه القدرة لإدارة نقاش في السياسة أو التاريخ والجغرافيا وطبعاً الفقه الديني، مع مثقفي البلدة، وللحقيقة لم تكن صداقته تقتصر على الشيوعيين بل شملت منتمين إلى جميع الأحزاب، عدا التيارات المتشددة، إذ أنه كان منفتحاً على جميع الأفكار والثقافات ولا يطيق التطرف من أي جهة أتى. وكان محباً للفقراء، وأذكر أن والدي قال لي، أبو جهاد فيه لله، ولما استفسرت عن قصده معتقداً أنه يشير إلى صيامه وتردده الدائم على المسجد،
أجابني :
أنه يتكفل بعض أسر اليتامى حتى تنبت أجنحة الكبير في الأسرة ويقوى عظمه،
ويستطيع القيام برعاية إخوته، وقد علمت هذا من بعضهم.
بعد خروج آخر المعزين من الصالة، قال جهاد:
أتدري لما استبقيتك أكسم؟.
خير إن شاء الله، مهما كان السبب أنا حاضر لخدمتك كما تعرف.
سلمت، لا أريد شيئاً محدداً.. إنما أردت أن أبثك قهري علني أتخفف قليلاً، واستطرد هل تعرف سبب موت المرحوم ؟
لا، ما سبب الوفاة؟
وبعد تنهيدة طويلة قال:
المرحوم كما تعرف ترك التجارة منذ سنوات لأخي الأصغر، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة، وأحياناً يخرج للترويح عن نفسه ولعب طاولة الزهر في دكان صغير يعود لأحد أصدقائه الذي كان مدرسا قبل إحالته على التقاعد. والمرحوم كما تعلم كان يتميز بذاكرة حديدية، لكنه ومنذ سنين بدأ ينسى بعض الأمور الصغيرة، ثم تطور الأمر لنسيان أمور أهم وأكبر، وبقينا نعتبر الأمر طبيعياً لا بل مدعاة للفكاهة، فكنا نضحك من بعض حالاتالنسيان التي تنتابه، كما عندما أجاب والدتي عن سؤال فيما إذا كان يرغب ببعض الجبن على العشاء:
وماهو الجبن؟ لم أسمع به من قبل!.
إلى أن وصل الأمر إلى حد لم يعد السكوت عليه جائزاً، فقد أضحى ينسى حتى أسماؤنا.
الأطباء شخصوا مرضه بما سموه اضطرابات الذاكرة (زهايمر). وبعدها تطور المرض.. وذاك المارد الذي طالما حملني ولاعبني صغيراً و أرشدني كبيراً، أصبح بحاجة إلى رعايتي، فقد عاد طفلاً!. لقد كسر قلبي ياأكسم، وما كان يضحكني بالأمس أصبح يبكيني. واستطرد قائلاً:
وبرغم أنه لم يعد قادراً على مشاركة صديقه في اللعب، إلا أنه استمر في زيارته، ومنذ أسبوع تقريباً خرج في طريقه المعتاد إلى الدكان فصادف جمهرة من الناس، ويبدو أنه اعتقدها جنازة، وهو كما تعرف كان يحرص على المشاركة في الجنازات، ووفق ما روى لي شاهد عيان، مشى والدي بينهم، ولكن للأسف لم تكن جنازة، إنما كانوا مجموعة من المتشددين خرجوا للتظاهر، وجرت أعمال شغب، وعندما حضرت قوات حفظ النظام، هرب أغلبهم وبقي القليل يسيرون خلف والدي!! نعم أصبح في المقدمة، ويبدو أن رجال الشرطة ظنوه قائد التظاهرة، فرفع أحدهم العصا يريد ضربه بها، لكن والدي أمسك بالعصا ودفع الشرطي فسقط أرضاً، عندها انهالوا عليه بالضرب، ثم ساقوه إلى المخفر ودام التحقيق معه ساعات، قبل أن يكتشفوا خطأهم ويخلوا سبيله، عندما عاد إلينا لم يكن قادراً على المشي بسبب تورم قدميه!!.
صمت جهاد قليلاً وقد إغرورقت عيناه بالدمع، وأضاف:
يومها، اختفت البسمة التي كانت تسكن عينيه، وانقطع عن الكلام والطعام عاش بعدها أسبوعاً واحداً فقط.
بعد صمت قصير أضاف: كما تعرف كان المرحوم عزيز النفس، لم يطق يوماً الذل، ولم يعرف المداهنة والنفاق، ولطالما أنشد أمامي قول المتنبي:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
بعد ذلك استدار جهاد واضعاً يده على كتفي مثبتاً نظره في عيني قائلاً: أكسم ..
هو الإحساس بالمهانة ما قتل والدي.