الطبيب المفقود
انطلق بسيارته ليلا على الطريق السريع والأنوار تتلألأ من حوله
الجو ملبد بالغيوم و رذاذ المطر يداعب مساحات السيارة ..
ينظر السائق أمامه باتجاه الشمال ويزيد من سرعته ..
يبتسم بسخرية من تطاير الماء حوله ..
تذكر أيام الصبا حينما كان يعدو مع أقرانه فرحا
بهطول المطر وهم عائدون من المدرسة ..
يخوض مياه الشوارع مسرعا وقد تبللت ثيابه ..
" آه .. ستوبخني أمي خوفا على صحتي !! "
" لا .. لا .. أمي تحبني ولن توبخني .. "
زاد من سرعة السيارة وقلبه منقبض كمن
أفاق من حلم جميل إلى مرارة الواقع ..
الساعة تجاوزت منتصف الليل وهو يسير
بسرعة عالية على الطريق
المؤدي للشمال ممنيا نفسه
أن يراها أو أن يسمع صوتها .
" آه لو ... ... قبل أن أراها .. " زاد السرعة ،
لكن مازال الطريق طويلا قبل الوصول إلى المستشفى
حيث ترقد ... حلق بفكره عبر صور الماضي
إلى أول لقاء في ربيع العمر ...
- " كنت أنت زهرتي وصديقتي وطبيبتي و حبيبتي "
- " وأنت فارس أحلامي وحبي وحياتي ،
بدونك أموت وأذبل ..
ولا عيش لي بعدك ..
فلا ترحل .. أيها الحبيب .. "
هبط من برجه العاجي على مطبات الطريق
وانحرف يسارا إلى الشارع الفرعي المؤدي للمستشفى ..
استقل المصعد إلى غرفتها ..
طرق الباب فاستقبلته الممرضة :
- " كيف حالها الآن ؟!
- " مستقرة .. لكنها نائمة "
أجابت الممرضة تاركة الغرفة .. بقي وحيدا ..
لا يستطيع أن ينظر إليها وهي مستغرقة في النوم
بعد العملية الجراحية .. تبدو شاحبة ولكن أجهزة القلب
والإنعاش تنظم عملية التنفس ..
*** ***
اقترب اكثر حتى جلس إلى جانبها ،
تأملها وقلبه ينبض بشدة ..
يدها باردة ونبضها ضعيف ..
لم يدري كم من الوقت مر عليه ..
سبح في خياله عبر النافذة ..
الليل يزداد حلكة ..
أغمض عينيه على نحيب قلبه اليتيم ..
من يكفـله إذا رحلت؟!
ومن يحنو عليه إن سافرت ؟!
من يشتاق إليه ويداوي جراحه بعدها ..
لا ترحلي يا فتاتي .. فأنت الطبيب والحبيب ..
لا تمضي وحيدة .. عبر جبال الثلج وغابة الصنوبر ..
عودي يا سلوى الفؤاد .. أرجوك لا ترحلي قبلي..
لنرحل سويا أيتها الغالية .. إلى حياة هي الباقية ..
*** ***
عادت الممرضة إلى الغرفة ومعها بعض الأدوية ..
صرخت صرخة مدوية متجمدة في مكانها وهرول
إليها الأطباء والممرضات ليجدوا أن المسكين قد
سقط على الأرض مغشيا عليه بجانب السرير مغمضا
عينيه ودمع يتلألأ عبر ضوء
المصباح الخافت ..