قبيل الغروب دخلت غرفتي الصغيرة المقابلة للفصل الدراسي بعد أن أنهيت تصحيح التمارين اليومية، الباب الخشبي المتآكل أصدر صريرا مزعجا للغاية، لكنه على أي حال كسر شيئا من رتابة و سكون الجدران الصامتة. على المائدة بقايا طعام غذاء تناولته حينها على عجل، فقد استغرق مني إعداده كل المدة المخصصة لاستراحة الظهيرة، و لم يتبق لي الوقت الكافي لأكله بأريحية نفس، كان همي الأول هو إسكات الأمعاء الخاوية رغم مخاوفي من حموضة باتت أمرا مزمنا. ألقيت بجسدي المرهق على السرير و تنفست بعمق محاولا إفراغ رئتي من كل ما احتبسته داخلهما من مشاعر سلبية اجتهدت طوال اليوم في كتمانها و إخفائها عن تلاميذي الصغار، ابتسمت و أنا أتذكر بعضا من قفشاتهم المضحكة، حقا الفصل مكان جميل يعج طوال اليوم بالحركة و الحياة عكس هذه الغرفة المظلمة الكئيبة، آه نسيت، علي إشعال شمعة قبل أن يعم السواد، أصابع يدي المرتعشة لا تكاد تثبت على وضع يمكنني من إمساك عود كبريت، هي علامات التقدم في السن، نعم لقد هرمت فما عاد بمقدوري القيام بأعمال كانت بالأمس القريب بسيطة للغاية، لهذا أخبرت الوزارة السنة الماضية برغبتي في التقاعد إلا أن المسؤولين كان لهم رأي آخر، فقد قرروا أنني لا أزال شابا بإمكاني العمل خمس سنوات أخرى رغم كوني على عتبات الستينات من عمري. أنا لم أحتج و لم أرفع عقيرتي بالصراخ، فلم يكن ردهم ليفاجئني بعد سنوات من طلبات الانتقال التي قوبلت بالرفض هي الأخرى بدعوى الخصاص، خصاص لم يكن حائلا أمام المعلمة الجميلة التي لم تكد تتم سنتها الأولى هنا بالقرية حتى عادت إلى المدينة متأبطة ذراع المفتش التربوي، هو ذات المفتش الذي قام بتحطيم رقم قياسي في عدد الزيارات التفتيشية لي بعد أن كتبت رسالة احتجاجية في شأن عملية الانتقال المشبوهة، لكنه عاد بخفي حنين بعد أن أعيته الحيلة.
لم أكد أنجح في إشعال الشمعة حتى التفت حولها حشرات ليلية مختلفة الأشكال و الأحجام، المشترك بينها قدرتها على الطيران و لو بشكل غير منتظم بالقرب من لهب أجهل تماما ما يشدها نحوه، حتى بعد أن توالى سقوط بعضها صريعا و قد احترقت أجنحتها و قرون استشعارها، ماتزال البقية الباقية ترقص رقصة الموت ذاتها بنفس الإيقاع، الغريب أن أولى الحشرات وصولا إلى الشمعة، كانت على صغر حجمها الناجية الوحيدة من مخالب النار الملتهبة، حتى أنها انسحبت بهدوء بعد أن اطمأنت إلى أن الجميع قد خمدوا للأبد.
قد يكون في الأمر بعض المبالغة و جنوح بالخيال بعيدا، لكن مشهد الحشرات الراقصة حول النار الملتهبة ذكرني بحلقيات النضال في الجامعة، حينها كنا شبابا متحمسا للغاية، رغم أن أول يوم لي بالجامعة لم يكن وديا أبدا، فقد دخلت من الباب الخطأ في الزمن الخطأ، كنت ملتحيا فاعتبر أحد الفصيلين المتناحرين دخولي إلى مجال نفوذهم تعديا خطيرا يستوجب العقاب، أفلت ذاك اليوم بأعجوبة من الموت، لكن بساق مكسورة. الثلاثة الذين تكلفوا بي لم أرهم بعد ذلك في الحرم الجامعي، أغلب الظن أنهم كانوا من غير الطلبة جاؤوا لدعم فصيلهم. الغريب أنني اشتبهت في أن أحدهم هو من قام بالتحقيق معي بعد ذلك بسنوات على خلفية تزعمي لمظاهرة مطالبة بتشغيل حاملي الشواهد العليا.
رافقتني حماسة الشباب حتى بعد حصولي على وظيفة أفنيت لأجلها أربعة عقود من عمري، عملت بجهد و تفان كبيرين، لم أخضع يوما لأوامر و إملاءات رؤسائي المباشرين و غير المباشرين إلا ما كان من صميم صلاحياتهم القانونية، أمر خلق لي الكثير من الأعداء، حتى أنني فضلت الانزواء في هذه القرية النائية.
آه نسيت أن أجمع كسر الخبز من على المائدة، ستتقافز عليها الفئران المزعجة، لا قبل لي بذلك فأنا متعب الليلة و في حاجة ماسة للنوم، آه لو كانت لدي زوجة لنابت عني في هكذا أشغال، لكن الأوان لم يفت بعد، سأتزوج بمجرد حصولي على التقاعد و سيصير لي أبناء و بنات، و سيكون أول درس ألقنهم إياه أن الربيع الأجمل لا يأتي إلا بعد شتاء عاصف.