عازف الناي
اسألوا عنه أشجار الزيتون و التين و الرمان .. و زهور السوسن و نبات السنديان...
اسألوا عنه أشجار الزيزفون التي أستظل يوما في ظلها .. و المراعي التي عشقها و هام في ربوعها بخرافه و نعاجه و أبقاره
اسألوا عنه ذلك الوادي الذي شرب ماءه و تنسم هواءه و أقام على ضفافه يكتب أشعاره و يستلهم من جريانه و عنفوانه معاني الحياة و النظارة و الجمال.
إنه الشاب سعيد الذي عاش في تلك القرية البعيدة عن أعين الحضارة و التمدن راعيا يرعى غنم القوم و يسهر على جلب الحطب للأرامل و الفقراء و يسعى في حوائج الناس... عاش محبوبا قنوعا صادقا مع نفسه و مع غيره .. لا تراه إلا عاملا منشغلا يقلب الأرض و يزرع الحقول و يربي الخراف و يتخير لهم المراعي الخصبة ، فقد عشق تلك الأرض فأمدها بجهده و عرقه و نَما في قلبه حبها فبادلته بخيراتها و بركاتها، فجعل يده مبسوطة يأكل منها القاصي و الداني و أسبغ عطاءه على أهله و خاصته و ألزم نفسه بأن لا يأكل إلا من كد يده و عرق جبينه فوفقه الله لذلك
فقد عـُرف بين الناس بعازف الناي الشاب السعيد، و فعلا كان سعيدا، فالطيور تزقزق له لترحب به و الحيوانات الأليفة تعرف له فضله فتهش له عند إقباله و تودعه بنباحها و موائها و ثغائها و رغائها إذا أدبر عنها، و كم تسعد له الفتيات حين يقدم لهن ورود البساتين و يصنع لهن تيجان مزركشة من زهور الحقول و البراري، و لا يمر عليه فتى صغيرا أو كبيرا إلا خصه بهدية من جبن بقر أو غنم أو قدم له فاكهة أو خضر، فيسلم على الكبير و يبادره بالتحية، و يحمل الطفل الصغير على كتفيه حينا و يداعبه و يلاعبه حينا آخر، كانت الطبيعة محرابه يؤذن للصلاة في الغابات و على رؤوس الجبال فيرجع صدى آذانه في الأودية و الشعاب فيسمعه الناس و الهوام و الدواب فيصلى لآذانه خلق من قريته و القرى المجاورة، فما ترك صلاته أبدا.
لم يكن متعلما و لم يسمع يوما مذياعا و لا رأى تلفازا و لا خرج من عالمه البسيط فهو أكثر الناس رضاً و قناعة بما بين يديه و ما يقع عليه بصره و لا يهمه من وراء ذلك شيء
كانت سعادته لا توصف حينما يختلي بنفسه في أمكنة نائية في ذلك الفضاء الواسع و هو يرعى دوابه فيخرج نايه و يسترسل في تأليف اللحون الشجية فيصدح بها كما لو كانت لحونا ملائكية تستمتع بها الطيور المحلقة و الحيوانات الراتعة و الرعاة الذين يتهافتون عليه من كل صوب فيقطعون عليه خلوته و يعود مساءا حين يعود إلى كوخه فرحا جذلانا و كأنه حاز الدنيا بأكملها
بلغ سعيد سن العشرين فكان لزاما عليه أن يلبي نداء الوطن و يلتحق بالخدمة العسكرية و كانت تلك السفرية الأولى في حياته
و بالرغم ما أنتابه من قلق حين ترك حياته القروية و ترك دوابه و طيوره و خرافه التي تتبعه كظله، غير أنه مَنَ نفسه بأنه سوف يخدم بلاده و يؤدي واجبه كبقية الشباب، فيوقف هذا التفكير بالواجب خواطره الحزينة التي تؤرقه و هو بعد في منتصف الطريق لم يصل الثكنة.
لكن صاحبنا خرج من قريته لا ليؤدي الواجب بل خرج لكي لا يعود
فقد ارتطمت الحافلة التي تقله و تقل الناس المسافرين معه في منعرج خطير بصخور عاتية فتهاوت في واد سحيق فمات الجميع،
وصل النبأ بوصول فرقة الجيش التي كانت تحمل نعشه على عربة عسكرية و لم يفهم الناس ما سبب وجود العسكر في هذه الناحية و هم لم يروا هذا الزيْ منذ خروج الاحتلال الفرنسي
انتشر الخبر و تداعى الناس لذلك الكوخ البسيط وكلهم ذهولا و حزنا من هول الفاجعة ، كان يوما مشهودا لم يُرى مثله في تلك القرية الهادئة، فقد حزنت لأجله السماء و الحيوانات و الطيور و الرجال و النساء، الشيب و الشباب حتى الأطفال الرضع، دفن الشاب وعاد الناس إلى بيوتهم في مشهد لم تفهمه فرقة الجيش من شدة بكاء الجميع، و لم يعد سعيد لخرافه و طيوره و بقى الناي الذي صدحت به حنجرته في جنبات تلك الأمكنة معلقا على مدخل البيت يشهد على شاب عاش حياته بسيطا محبوبا زاهدا فلم يخرج يوما من تلك القرية لكنه حينما خرج ليتعرف على الحضارة التي تحيط به عاد مييتا. رحمة الله عليه