يقودُ السيّارة بصمتٍ، لا يتناهى غير صوتِ السكّان إثر ارتطامهِ كل مرة بطرفِ قميصهِ الزائد قليلاً عن ذراعه. يشعرُ بخوفٍ قليل يسري في دخيلتهِ دون أن يتبينَ لهُ سبباً واضحاً، يحاولُ بين الفينة و الفينة أن يفتحَ الراديو كي يزيلَ عن نفسهِ ثِقل الغربة المفاجئة التي تلمّ بهِ. منذ فترة ليست قصيرة، اعتادَ أن ينامَ في المساء و يصحو عند أولِ ساعات الصباح بعد انقضاء منتصف الليل، و ها هو كما يبدو ستظلُّ تراوده هذه العادة فقررَ أخيراً أنه بصدد التواءم معها، فثمّة أمور في الحياة لا محيصَ عن التصالح معها بل و الرضوخ لها إذا كانت ذات سطوة، كالنسيّان مثلاً.
ركنَ سيارته الصغيرة في المصفّ العام. حملَ هاتفه المحمول و محفظته الجلديّة، إضافة ًإلى كتاب متوسط الحجم. دفعَ الباب، أحسّ به ثقيلاً لأول وهلة. مشى مرتدياً نظارته السوداء و هو ينعمُ بحرارةِ نيسان اللذيذة تسيلُ فوق خدّه و تستقرُ فوق شفتيه. كان الربيع بالنسبة له محاولة البدايات، هذا اللون الأخضر الذي تتزيا به الدنيا لا يبعثُ الفرحَ بداخله قدرَ ما تؤجج الرغبة المضطرمة بتلمّس نقاط الإنطلاق من جديد. إنهُ، و بالذات في الآونة الأخيرة، لا يفهم نفسه تماماً، و هو على يقين أنه ما عادَ كثيراً مهتماً بفهمِ نفسه، يتكتمُ عن رغباته و لا يوليها تلك النظرة التي كانت في السابق، يمرُّ على الأشياء بروحِ الزاهد المتعفف، يبتسمُ للآخرين بحبٍ كبير و يهبُ روحه للحظة دون حساب. المُدهش حقيقةً، أنه لم يتصوّر في حياته قط، هذا المصير، لقد أصبحتْ سعادته في متابعة سربٍ من النمل يحملُ جناء نهاره بدأب. أو مثلاً، كيف تلتقي غيمتان في السماء و تحجبانِ قرص شمس ذلك النهار. يعلمُ أنه يرثُ هشاشةً تنبعُ من قناعته بنسبيّة الأشياء و عدم استقرارها على طبيعة محددة تحكمها و تبّلغها حدودها القصوى.
شعرَ بقامتهِ النحيلة جداً تنحني عند عتبة الباب الزجاجي، فرحّب بهِ التسجيل الصوتي مُعلناً دخول زبون جديد. خلعَ سترته الخفيفة و علّقها على المشجب المحاذي للمدخل. دسّ كفّه المتعبة في جيب بنطاله و تحسس الأوراق النقدية بكثيرٍ من العناية. و من الداخل كان يصله صوت أغنية مفضلة لديه، إنها أغنية فرنسية أثيرة تؤديها " ألوزي " Alizee - ، و على الفور عثرَ على نفسه ينقاد للترنّم بكلمات الأغنية رغم أنه لطالما أقرّ بجهله في إدراك معاني الكلمات الرنانة السريعة. الكافيه يبدو شبه فارغ إلا من بعض المرتادين، التفّ حول نفسه بحركةٍ خاطفة راقصة مثل حبلِ غسيل مبلول انزلقتْ عنه الثياب فجأةً، أرادَ أن يضحك إلى أن تمالك نفسه أخيراً قبل أن تفغرَ شفتاه. خلف الكاونتر كانت فتاة تنتظر أن يتقدّمَ و يقوم بإختيار طلبه، حينما ندّتْ عنه تلك الحركة الغريبة، ارتجفَ أنفها الصغير و غامتْ عيناها فوق شفتينِ رسمتا ابتسامةً شفّافة. حاولَ أن يعكسَ ملامح الجديّة في هيئتهِ فتنحنحَ بكحّةٍ مقتضبة ثم أرخى ذراعه قريباً من الكاش و بدأ يطالعُ بإهتمام ظاهري أسعار المشروبات.
- مرحباً. عفوك، لقد دخلتُ مندفعاً و لم أُلقِ بالاً لوجود الكاشير هنا.
- ما في مشكلة أبداً ! .. أهلاً بك. مال وجهك أحمّر هكذا؟
- أنا خجول قليلاً، لا تبالي .. هل يوجد أمريكانو؟
- ما الحجم المطلوب؟ .
رأتهُ ساهماً قليلاً شارد النظرات، فبادرتهُ قائلة ًبنبرةٍ من الإبتهاج المُفتعل:
- لدينا عرض لليوم، اشتري الحجم الكبير بسعر الوسط. ما رأيك؟
- حسناً .. أمريكانو كبيييييير.
و باعدَ بين ذراعيهِ كأنما ليمثّل لها المشهد كنوعٍ من الدُعابة. اهتزّتْ ترتعشُ اتجاه هذه الحركات الخفيفة، كانت ثمّة فراشات صغيرة تصعدُ الكحل بأطراف عينيها الفرحتين الواسعتين. حدسَ في قرارتهِ أن هنالك تكامل فذّ بين روح الأنثى و روح الطبيعة في عينيّ الفنان. أعجبه استنتاجهُ و هو يتراجعُ ببطء ثم يخطو إلى طاولة قريبة. جلسَ و هو لا يزال يفكّر ، لكنه سرعان ما دفعَ بالخواطر عن مخليته و انشغل بقراءة الكتاب الذي جلبه معه. مرّ بأصابعه على الصفحات الصفراء الناعمة، كان الكتاب رواية لوليم فولكنر عنوانها " الصخب و العنف " ، تحكي الرواية قصة عدد من الأجيال من الأمريكيين في بداية القرن العشرين و الذين عاشوا في حوض الميسسبي، يزرعون القطن و يعيشون صراعاتهم الداخلية مع المال و الزنوج و التحرر الطارىء على المجتمع الزراعي المحافظ. يستمتعُ عادةً بأسلوب فولكنر طويل الجملة الغارق في تيار الوعي، و هو إلى جانب ذلك يحسّ تماماً بصنعة الفنان الماهرة المتقنة في عمل استحق عليه فولكنر نوبل كاملة.
قطعَ حبل أفكاره صوت الجلبة القادمة من المطبخ القريب، صوتُ الكؤوس و الملاعق تقرقع في الداخل. و بالصدفة عاد نظره إلى فتاة الكاشير ، كانت منشغلة هذه المرة، تتحدثُ بعصبية على هاتفها المحمول و إن حدث ذلك بصوتٍ خافت لا يلاحظه أحد.
لقد تصالحَ مع ماضيهِ البعيد مُرغماً و لا يريد أن يمضي في رشّ الملح فوق الجروح الملتئمة. تنفّس بعمق ملوّحاً ببصرهِ في أرجاء الصالة النظيفة خافتة الإضاءة. الجميع مسترسل بالعمل إما على أجهزة اللابتوب أو على الهواتف المحمولة، إنه عصر سماعات الأذن بجدارة، الأغلبية تحاول الإنعتاق و قلمّا صارت ترحّب بالنقاش و الجدل. العالم يتفتّح اليوم مثل زهرةٍ قررتْ أن تفوحَ بكل شذاها مرة واحدة و إلى الأبد، لا حدود لا قيود لا حواجز.
رفعَ بصرهُ في الغباش حينما شاهدَ كفّاً مطلية الأظافر تحملُ خاتم خطوبة لامع ، جاءت بكوب القهوة، إنها الفتاة ذاتها. ابتسم لها دون قصد طاوياً الكتاب على صفحتهِ تلك. إنه يحرصُ حتى اللحظة أن لا يعترف بأنها كانت ملاكاً سقطَ من إحدى السموات. رآها تبتعدُ في المرآة المعلّقة على الحائط، إنها بلا شك في العشرينيات و ربما لا زالت تدرسُ في الجامعة و هي الآن تعملُ ما بعد الظهيرة كي تغطي مصروفها الجامعي. أمسكَ بكتابه و عاد إلى المطالعة. كانت الأحداث تتأزم صفحة بصفحة .. سرقة، خيانة، جحود، ذكريات الحرب القديمة، البورصة، العقوق، العنصرية، إلخ.. مع الوقت سيُدرك حقاً معنى أنه مهما كان الفنان بديعاً في ترتيبِ خيالهِ و تشكيلهِ للأحداث و الشخوص و الدراما، فإن الواقع بلا مقارنة أكثر إثارة و أشد غرابة.
مرّتْ مدة من الزمن لم يكتنه طولها. تأمّل رأسه المنحني فوق الكتاب في المرآة البعيدة، كان شعره الغزير يغطي جبهته و لحيته تأكلُ وجهه ذو العينين الغائرتين. كان صبيّ مدرسة في الثلاثينيّات من عمره، طالباً نجيباً لا يرغب بترك المدرسة أو الحياة. ما أبغضها إلى نفسه أن يجلسَ إلى شخص ليحدثّه عن الحياة ساعة ًو ما يجبُ فيها و ما لا يجب !، إنها ذكية جداً تلك الحياة التي تعرفُ كيف تختفي حينما نجدها و متى تظهر حين نختفي نحن.
للحظة سمعَ بباب الكافيه يُفتح بقسوة و اندفاع. شاهد ذلك الشخص العابس يدخل دون مبالاة أو تريّث، ثم شرعَ يصرخ بالفتاة. لقد كان شاباً قوي البنية على الموضة مثلما يقولون. بدأ بالطرق بأصابعه الضخمة مهدداً أمام الفتاة الخائفة. بدا كأن لا حول لها و لا قوة أو بالأحرى هي في موقف لا تُحسد عليه، إنه موقف مُحرج للغاية. الخطيب الغندور يستعرض قواه أمام الملأ، لقد سمعَ من مكانه كلاماً مؤلماً تفوّه به ذلك الأرعن. شاهدها تبكي و قد انثالتْ ضفائرُ شعرها السوداء على كتفيها محلولةً و هي تعقفُ بعنقها بإستسلام، إنه يذهب و كأن شيئاً لم يحدث. انضمّ إليها بعض الرفاق و بدأووا بتهدئتها، بل أن زميلة لها مسحتْ بمنديل دموعها المغرورقة و هي تحنو على كتفها مربّتة . أصبحَ وجهها أحمراً كتفاحة ناضجة، ذبلتْ عيناها و قد أهرقتْ من العبرات ما أذاب جزءاً من الكحل. توارت لفترة من الوقت قبل أن تخرجَ إلى الزبون القادم باسمة ًو قد عقصت شعرها و تصنّعتْ ابتسامة ًزائفة على شفتيها.
ربما يكون مشهداً عادياً جداً و يتكرر دون أن تكون ثمّة مبررات. لكن في نفسهِ كان يعتملُ غضب خفي، لقد تفتّق الماضي و انحلّت خيوطه العريقة في ذاكرته، عضَ على شفتيه، لم يشأ أن يسترجعَ صدى خلفّته الأيامُ.
راودهُ إحساسٌ عميقٌ بالأسى إثرَ إغلاقه للكتاب. أكمل فصلاً من الرواية ثم تأهّب للخروج. حيّ الفتاة و يده تشيرُ إلى فمهِ طالباً منها أن تبتسم. رفعتْ حاجباها إلى أعلى معلنة ًمولد ابتسامة جميلة افتّرت عن شفتيها الرقيقتين.
كان لا يزال صوت تلك الأغنية الفرنسية يصدحُ في الداخل، و لسببٍ ما اختفى كل تلك الفترة، لكنه عادَ يترجّعُ مشبوباً بالحياة و الوعود، يكتنفهُ شيءٌ من الصخب و العنف أحياناً . بينما كان يبتعد عن المحل إلى الشارع مجدداً بقلبٍ يفتقد الكثير من الأمان و الرضا.