ذكر الدمشقي في كتابه (مطالع البدور) عن أمير القاهرة في ذلك الوقت شجاع الدين الشِرِزي فقال: بينما انا عند رجل في الصعيد وهو شيخ كبير شديد السُمرة, إذ حضر اولاد له بيضٌ حِسان, فسألناه عنهم. كيف يكون هؤلاء بيض وأنتَ شديد السُمرة.
فقال: هؤلاء امهم إفرنجية (فرنجة) وليَ معها قصة, فسألناه عنها, فقال: ذهبت إلى الشام وانا شاب اثناء احتلال الصليبيين له, واستأجرتُ دكاناً أبيع فيه الكتان. فبينما انا في دكاني, إذ أتتني امرأةٌ أفرنجية زوجة أحد قادة الصليبيين, فرأيت من جمالها ما سحرني, فبعتها وسامحتها في السعر (يعني بثمن قليل), ثم انصرفت وعادت بعد أيام فبعتها وسامحتها, فأخذت تتردد عليَّ. وانا اتبسط معها, فعلمت اني اعشقها. فلما الأمر مني ما مبلغاً. قلت للعجوز التي معها, قد تعلقت نفسي بهذه المرأة فكيف السبيل إليها. فقالت العجوز هذه زوجة القائد فلان ولو علم بك وبنا قتلنا نحن الثلاثة. فما زلت بها حتى طلبت مني خمسين دينار لتجيئة بها إليَّ في بيتي. فاجتهدت حتى جمعت خمسين ديناراً واعطيتها لها وانتظرتها تلك الليلة في الدار. فلما جاءت إليَّ أكلنا وشربنا فلما مضى بعض الليل, قلت في نفسي أما تستحي من الله وانت غريب وبين يدي الله وتعصي الله تعالى نصرانية . فرفعتُ بصري الى السماء وقلت أللهم أشهدك أني عففت عن هذه النصرانية حياءاً منك وخوفاً من عقابك, ثم تنحيت عن موضعها الى فراش آخر, فلما رأت ذلك قامت وهي غضبى ومضت, وفي الصباح مضيت الى دكاني, فلما كانت الضحى مرت عليَّ المرأةُ وهي غضبى, وكأن وجهها القمر حين مرت. فلما رأيتها قلتُ في نفسي: ومن أنتَ حتى تعفُ عن هذا الجمال: انت ابو بكر ام عمر أم جنيد العابد أم الحسن الزاهد. ثم بقيتُ اتحسر عليها, فلما جاوزتني لحقتُ بالعجوز قلتُ لها ارجعي بها إليَّ هذه الليلة. فأقسمت العجوز وقالت: ما تأتيك إلا بمئةِ دينار.
قلتُ: نعم. فاجتهدت حتى جمعتها ثم اعطيتها إياها. فلما كان الليل وأنتظرها في الدار, جاءت وكأنها القمر أقبل عليَّ, فلما جلست حضرني الخوف من الله وكيف اعصيه مع نصرانية كافرة, فتركتها خوفا من الله. وفي الصباح مضيت الى دكان وقلبي مشغول بها, فلما كانت الضحى مرت عليَّ المرأةُ وهي غضبى, فلما رأيتها لُمتُ نفسي على تركها وبقيت اتحسر عليها, فسألت العجوز. فقالت: والله ما تفرح بها ولا تمسها إلا بخمسمئة دينار أو تموت كمدا.
قلت: نعم وعزمت على بيع دكاني وبضاعتي وأن اعطيها الخمسمئة دينار. فبينما أنا على ذلك, إذ منادٍ نصرى ينادي في السوق يقول: يا معشر من هاهنا من المسلمين إن الهدنة التي بيننا وبينكم قد انقضت وقد امهلنا من هنا من تجار المسلمين اسبوعاً, فمن بقي بعده قتلناه. فجمعت ما بقي من متاعي وخرجت من الشام وفي قلبي من الحسرة ما فيه. ثم أخذت ببيع الجواري عسى أن يذهب ما في قلبي من حب تلك المرأة. فمضى عليَّ في ذلك ثلاث سنين, ثم جرت وقعتُ (معركة) حطين واستعاد المسلمون بلاد الساحل وطلب مني جارية للملك الناصر. وكان عندي جارية حسناء فاشتروها مني بمئة دينار, وسلموني 90 ديناراً وبقي لي عشرة دنانير, فقال الملك أمضوا به الى البيت الذي فيه (السبايا من الإفرنج) فليختار منهن واحدة بالعشرةِ دنانير التي بقيت له, فلما فتحوا الدار رأيتُ صاحبتي الإفرنجية, فأخذتها فلما مضيت بها الى بيتي, قلت لها تعرفينني؟؟ قالت: لا, قلت: أنا صاحبك التاجر الذي أخذتِ مني مئة دينار وخمسون ديناراً وقلتي لي لا تمسني الا بخمسمئة دينار. ها أنا ذا أخذتك ملك يمين بعشرة دنانير, فقالت: أشهد ان لا اله الا الله وأشهد أن محمد رسول الله, فأسلمت وحسُن اسلامها وتزوجتها, فلم تلبث أن أرسلت امها اليها بصندوق, فلما فتحناه فإذا فيه الصُرتان التي اعطيتها, في الأولى خمسون ديناراً وفي الأخرى مئة دينار وفيه ملابسها التي كنت أراها فيه, وهي أم أولادي هؤلاء وهي التي طبخت لكم هذا العشاء.
نعم من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, وهذه الطائفة لعفتهم أسباب: أقواها, إجلال الجبار جل جلاله ومراقبته في السر والعلن, والخوف من الله تعالى فهو الذي وهبهم القوى والأسماع والأبصار. والعبد قد يختفي عن الناس ولكن أنى له أن يختفي من الله وهو معه.