قال أحد اصدقاء الإمام جابر بن زيد له يوما بأن الحجاج سيعينه قاضيا ـ أي الصديق نفسه ـ فقال له الإمام جابر محذرا : ( لو ابتليت بشيء من ذلك لركبت راحلتي وهربت ) فكان الإمام ـ رحمه الله ـ يفر من القضاء لأنه يعلم صعوبة التوفيق بين رغبات الولاة ـ الذين يعلم جوهرهم ـ وبين العدل المشروع ...
وتشاء الأقدار أن يبتلى الإمام جابر بما كان يفر منه ... فكيف استطاع التخلص يا ترى ؟
أدخل يزيد بن ابي مسلم ( كاتب الحجاج ، وصديق الإمام جابر ) أدخل الإمام جابر على الحجاج ، فسأله الحجاج : ( أتقرأ ؟ )
قال الإمام : نعم ،
قال : ( أتفرض ؟ ) ـ أي تقسم التركات ـ ،
قال الإمام : نعم ، فعجب الحجاج ثم قال : ( ما ينبغي ان نؤثر بك أحدا بل نجعلك قاضيا بين المسلمين ) ،
فقال الإمام جابر : ( إني اضعف من ذلك ) ،
قال الحجاج : ( وما بلغ ضعفك ؟ ) ،
قال : ( يقع بين المرأة وخادمها شر فلا أحسن أن أصلح بينهما )
فقال الحجاج : ( إن هذا لهو الضعف ) .
فالحجاج عندما سأل الإمام ( أتقرأ ، أتفرض ) إنما ذلك من باب الملاطفة لاستهوائه ، وإلا فإنه يعلم مكانة الإمام جابر وعلمه ، لذلك نجده تحول بسرعة إلى عرض المنصب الذي يحتاج صاحبه إلى علم غزير لا يمكن أن يتجلى للحجاج من خلال الإجابة عن سؤاليه وهما أن الإمام يقرأ ويفرض ، لكن هل يكفي القاضي ان يكون عارفا للقراءة وقادرا على قسمة المواريث فقط ؟
فالحجاج ـ وله من الفقه ما له ـ لم يكن ممتحنا للإمام في علمه ، وإنما كان يمتحنه في قبول الخطة أو رفضها ، وهذا بالإعتماد على الإسلوب المرن الذي لم يكن من طبيعة الحجاج ، ولكن حديث كاتبه يزيد بن ابي مسلم عن الإمام جابر من قبل حول الحدة المباشرة إلى حده غير مباشرة تعتمد على دفع الرجل إلى قبول العرض ....
ولكن الإمام جابر قابل المكر بالمكر والحيلة بالحيلة فأدرك الحجاج من إجابة الإمام أنه أمام شخص غير مغفل وليس من أولئك الراغبين في المناصب بتعديد محاسنهم ومعارفهم ... اجابات مقتضبه ... مما دعا الحجاج مباشرة إلى عرض خطة القضاء ..
لكن الإمام لم يجرفه الهوى بل ظل صامدا بمرونة منقطعة النظير ، مما حدا بالحجاج إلى معذرة الإمام من تلك المهمة .