الصَّيفَ ضَيَّعتِ اللَّبن .
( مثل عربي قديم )
قصّة الخيرِ المُضيّع بالطَّمع .
قِيلَ هذا المثلُ في العصرِ الجّاهلي نابعاً من تجربةٍ حقيقة وحادثة واقعيَّة ؛ فقد روى الرُّواةُ أنّ أحد سُراة الجاهلية ووجهائها وهو " عمرو بن عمرو بن عُدسٍ" تزوّجَ ابنةَ عمِّهِ بعدما ارتفع سنُّه وصار شيخاً كبيراً ، وكانَ يحبُّها ويكرمُها ويسخو عليها بمالهِ الوفير ، لكنّها كرهت شيخوخته ، وقارنت بين حالها وحال صديقاتها اللآئي تزوّجن بفتيانٍ يقاربوهنّ في العمر ، وتأسّفت على حالها وشبابها الذي ينفلتُ منها في ظلّ شيخٍ مسنِّ ، ونسيت في غمار هذه الحسرة ما يتمتّعُ به زوجُها من كرمٍ وشجاعةٍ وذكاء ووجاهة في قومه فضلا عن حبّه العظيم لها ، لكنّها فركته حتى طلّقها أي ظلّت معه على سوء الطباع والخصام والنفور حتى طلّقها ،
ثمّ تزوجت بعده بشابٍ جميل المُحيّا من "آلِ زُرارة" لكنّه لم يكن كزوجها السابق في الشجاعة والمروءة وكريم الخصال ؛ فلما أغارت عليهم قبيلةُ " بكر بن وائل " نبّهتْ زوجها ليدافع عنها ويمنع عن عرضها الأذى لكنّه استعظم القتال واستهول الرجال وأصابهُ الفزعُ فماتَ في مكانِه فسباها قومُ " بكر بن وائل " فسمع بذلك زوجُها الأوّل - عمرو بن عمرو - فأسرع إليها بالنّجدة والفرسان فاستنقذها من السّبي والمهانة ، وقتل من خاطفيها ثلاثَة فرسان ،
ثمّ تزوجتْ ثانيةً بشابّ آخر لكنّه - هذه المرَّةَ - كانَ فقيراً إلى حدّ أنّها كانت تتشهَّى أنْ تشربَ الحليبَ الذي لم تكن تفتقده في بيت " عمرو بن عمرو " ، بل كانت تشربه بديلا للماء عند هذا الزوج الأول ، وبلغَ بها اشتهاءُ اللّبنَ درجة شديدةً إلى أن كانت ذات ليلةٍ واقفةً أمامَ خيمتها ومعها جاريتُها فمرّت بها قافلةٌ عظيمةٌ من الإبلِ تكاد تسدّ الأفقَ فقالت لجاريتها : اطْلُبي من صاحب هذه الإبل أن يَسْقِنا من الّلبن . فذهبت الجارية وأبلغت الرسالة لصاحب القطيع ، وإذا به " عمرو بن عمرو بن عُدس " - زوجها الأول - ، فسأل الجارية : أين سيدتُكِ ، فأشارت إلى حيثُ تقفُ زوجته السّابقة ، فقالَ لها : قولي لها :*
" الصَّيفَ ضيَّعتِ اللّبن " ورفض أن يعطيها من حلبِ إبله ... وكان يشيرُ بقوله هذا إلى إضاعتها له وإسراعها إلى الزواج بغيره ممّن لم يدانُوه في خُلُقِه وحبّه لها ، ولم يستطيعوا - مثله - أن يمهّدوا لها العيش الكريم ؛ فأحدُهم مات جُبناً ولم يستطع الدفاع عنها ... والآخرُ أجاعها وأظمَاَها إلى حدّ أنها اشتهت حلبَ الإبلِ من الغُرباءِ ...*
وصارت مقولةُ عمرو بن عمرو مثلاً يُضربُ لكلّ من يُضيِّعُ ما بيديه من خيرٍ طمعاً في غيره وبطراً بالّنعم وجهلاً بقيمة ما يملكه من مُتاَحِ النّعَمِ .