المليونير والمنحوس
نوزاد جعدان - سورية
يعتمر الضباب سقف المدينة، وهالات الذكرى تبعث ما سكن الطفولة والشباب لتردها إلى الحياة مرة أخرى، تنشر الأشجار صفحاتها على دفتر الأرض ودوواين التراب، تردد أغانيها حفيف الأشجار، إنه الخريف الكئيب يا قلب!، أيلول الباكي يردد ترنيمته، هذه الأجواء البائسة تزرع الكآبة وسوء الطالع في نفس فرحان أكثر مما هو عليه، فجسمه النجيل وقامته الفارعة لم تعد تحتملان حظه السيئ، أمست عيناه ذابلتان وشفتاه خشنتان من تدخينه للتبغ، رسم كثيرا ولم يشتري أحد لوحاته ولم يحصل على نقود ليفتح معرضا خاصا بلوحاته، قارع الثلاثين عاما ولم يحقق مبتغاه بعد.
كلما كانت تقاسيه أسنان القدر يفرغ جام غضبه على لوحاته فيكسرها أو يحرقها ليتخلص منها، أحب فرحان رائحة المطر وهيجان الغيم حين تغريها الأرض بخلع لباسها، وتدله بسكون الجبال كما آلمه منظر الشفق، كان رساما حالما لا يفكر إلا بيومه وخياله، كسولا في مشيته متذمرا من حياته، يحلم أن يحيا كما في الأفلام الكلاسيكية ضمن الطبيعة وبيت على الجبل و محبوبته حسناء ريفية، ناهيك عن عربدته وصرف نقوده على الحانات والخمرة، ما كان يكسبه يصرفه على ملذاته الشخصية أو على الخروج في نزهة على متن الجبل، ليرسم ما يبحث عنه إلهامه، كان يرد فشله تارة على الحظ ومرة على عدم حيلته وتفكيره المادي فقد نشأ على المبادئ وعدم الكذب.
استأجر مرة قطعة أرض صغيرة وزرعها قمحا لم ينجده الغيث فجف محصوله ووقع تحت وطأة الديون، استأجر في العام الذي تلاه أرض زيتون كي يبيع الزيت فأصاب الصقيع الأشجار ولم تعطه الثمر فخسر أيضا، اتجه إلى التجارة وبدأ يستورد المعدات الإلكترونية ويتاجر بها لكن الولايات المتحدة ألقت حصارا اقتصاديا على بلاده فكسدت تجارته وتأزم وضعه وأخرجوه من بيته بعد عدم قدرته على دفع الإيجار.
في تلك الفترة بدأ يتردد على بيت أصدقائه كضيف ثقيل لا يملك النقود، حتى مل منه أصدقاؤه إلى أن وجد له أحد أصدقائه عربة ليبيع عليها الخضار والفواكه، كان يتجه كل صباح إلى مركز المدينة وهو يلهث تحت عربته المثقلة كما يلهث تحت جسمه المتعب بالآلام والهموم، في مساء ملون بسواد الغراب أوقف عربته على رأس رابية ثم جلس على الرصيف لينفث لفافة تبغ، كان يدخنها ويحلم مع دخانها أن يصبح شخصا غنيا مليونيرا، نسج في دخان سيجارته أحلامه، بيتا من القرميد الأحمر ومزرعة خاصة به وغرفة خاصة به يلون ويرسم فيها لوحاته وكأنها معرضه الخاص.
حلم أن يقتني بيانو خاصا به ويعزف الحان عشقها لكن وضعه المادي لم يسمح له أن يشتري
آلة موسيقية فمنذ صغره يحمل هموم الكبار برغيف الخبز، وحلم بمدفأة جميلة تمنحه الدفء أيام الشتاء الباردة، ففرحان يكره الشتاء لأنه يتذكر طفولته البائسة في البرد القارص عندما كانوا لا يملكون سعر الوقود في المنزل فيلتحفون عدة بطانيات ويتكدسون قرابة بعضهم، يكره الشتاء حين يتذكر ذهابه إلى المدرسة بدون معطف فتحرجه المعلمة بأسئلتها الفضولية عن عدم لبسه المعطف، فكان يرمي نظره إلى الأسفل ويبتسم بغباء، تلك الأسئلة الفضولية جعلت من حياته ومن نظرته إلى الأرض راسخة فنسي السماء والعلو.
تخيل أنه يملك مزرعة كبيرة فيها أشجار من شتى الأنواع والهواء النقي يداعب الأغصان ورائحة النسيم تفوح في الجو، ففرحان مل من روائح الفقر والجوارب الممزقة ورائحة الطبخ التي تدخل الغرفة كون بيته علبة كبريت، وأهم شيء أن الأشجار ستحميه من الشمس، فهو يكره الحرارة العالية وأشعة الشمس فلها رائحة ذكرى عمله في البناء والعمار حين كانت مهمته أن يحمل البلاط تحت أشعة الشمس الحارقة والعرق يتقطر من خلفيته الصغيرة.
كان يكره الشمس ورائحة العرق ولا يملك النقود ليشتري زجاجة عطر تمنحه رائحة جذابة، كان يتبلل بالعرق ويراقب سراب الحسناء التي يغطي بيتها القرميد ويكسو سقفه زهر الياسمين يتذكرها وهي تقف على الشرفة تسمع أغنيات تروق لها وتغير من أغنية إلى أخرى أما هو فأي أغنية ستروق له فقط يريد أن يسمع وينسى ويتخيل ويضيع في الياسمين، وهواء المكيف يداعب فستانها الأرجواني لترنو لوحة كثيرا ما رسمها فرحان، كانت تمسك تفاحة وتعض منها أما فرحان فيفكر بتفاحاتها المنتصبة وراء ذلك الفستان كم هي شهية لو وصلت لمساته إليها أو لو وضع شفاهه الخشنة عليها، كان يحبها حبا جما ومستعدا ليقبل حذائها لترضى به ولكن هيهات فبيتها من الريش وفرحان الولد الدرويش.
في خضم الذكريات ابتسم ابتسامة عريضة فأيقظته صفعة مدوية على وجهه فخر وافقا، وإذ بالشرطة تقبض عليه، بحث عن عربته فلم يجدها، استفسر عن القصة انهالت الشرطة عليه باللطمات ثم تبرع احدهم وأجابه سيفهم كل شيء في المخفر، وضعوه في السيارة وهو يحدق من وراء زجاجها الغليظ القلب بالوجوه العابسة وبالطريق والناس وبالعدالة المفقودة وما يفعله القدر به.
بدأ يسربل خطاياه ويحلل شخصية أصدقائه من هم ضد الدولة، يلمس وجهه ويلامس لحيته ربما حسبوه من الإخوان، يفكر ماذا قال وبماذا فكر وببقال الحارة هل سلخه تقريرا كي يقبضوا عليه.
وصل إلى القسم استقبله رئيس القسم بتكشيرة بانت أسنانه الصفراء فتخيله فرحان مصاص دماء وصاح صارخا:
"تعال ولك حيوان."
"لم افعل شيئا يا سيدي، روحي فداء الوطن ."
"ما علاقة الدولة يا بغل؟"
فتح فرحان فاه كأهبل مغفل.
"كيف تضع عربتك هناك؟ ألا تعلم ما الذي حصل؟"
"لا يا سيدي والله نادم."
"أتنام يا حمار ولا تشعر بشيء مطلقا."
"ما الذي حصل يا سيدي بالله عليك."
"صدمت عربتك عجوزا يا دب."
بلع فرحان ريقه وضحك عاليا مستهزئا من حظه فلطمه الشرطي .
"الحمد لله أن العجوز لم يمت أصابته جروح في قدمه ويده وسنقدمك إلى المحاكمة غدا."
انهال فرحان بالبكاء وهو يصرخ:
"والله لم يكن لي ذنب."
"خذوا الحمار إلى السجن. خذوه."
مكث فرحان شهرا كاملا في السجن إلى أن تحول إلى المحاكمة، ولكنه كان سعيدا في السجن فقد كان الطعام مجاني والنوم أيضا وحصل على فراش ناهيك عن أنه جو مناسب للكسل وللتأمل فحين يتكاسل الجسد تجد الروح دربها.
حانت وقت محاكمته فدافع عنه صديقه الوكيل طارق صاحب الدم الثقيل والخلفية الكبيرة والذي يبلع ريقه مع كل نبضة قلب، كأنه يعاني جفافا صحراويا في الفم، حكم على فرحان بالسجن لشهر ثم خرج وتمنى أن تطول مدة إقامته هناك.
خرج وهو يفكر بالواقع السيئ الذي دخله، كان في السجن يملك أحلامه الحرة، ولكن في وطنه لا يملك شيئا حتى الأحلام ممنوعة وعليها رقابة، خرج وهو لا يملك فلسا على العكس عليه ديون صاحب العربة، فكر في خلده إلى أين يمضي والدرب وعر طويل، كان يكفيه بيت وشارع واحد تساءل لمن كل هذا الطريق، كنت راقصا على الأرض الوعرة الآن تحطمت أقدامك.
اتجه إلى صديقه المحامي طارق على موعد الغداء، والتقى به على طاولة الغداء، تجهم وجه طارق البخيل من رؤيته ففرحان سينال على الأطباق كلها، شرع فرحان بالأكل حتى التهم كل الصحون أما طارق فقد ارتفع السكري عنده من شدة غيظه، ثم بدأ يشرب الشاي حتى دق جرس بيته، دلف رجل عجوز عتبة الباب وجلسوا سوية يتسامرون ويضحكون أحب هذا العجوز فرحان كثيرا وصاروا يتنادمون الخمرة كل يوم، وكلما كان يسال فرحان طارقا عنه يجيبه:
عجوز مخرف صديق والدي المرحوم.
انتبه فرحان لنقوده الكثيرة وصرفه الباذخ وتعجب من أين يحصل على النقود ثم يرجع إلى أحلامه أن يصبح غنيا كهذا العجوز سيصرف أضعاف ما يصرفه، مضت الأيام وسكن فرحان مع العجوز في قصره الكبير، كانوا متلازمين كثيرا يخرجون سوية ويطبخون معا ثم يذهبان إلى الحانات للشرب كان العجوز يجد شبابه الضائع في فرحان.
في يوم استيقظ فرحان ولم يجد العجوز بحث عنه ولم يجده وانتبه إلى خزانة النقود المفتوحة فتحها وكأنها شباك السماء، إنها حوالي مليوني ليرة سيحقق أحلامه فيها وينسى نشأة الفقر هذه حمل النقود ووضعها في كيس وهرب من بيت العجوز كان ضميره يؤنبه ولكنه ردد في نفسه هذه فرصته الذهبية التي طالما بحث عنها في حياته واستثمرها جيدا، على الحدود قبضت عليه الشرطة وهو يحاول الهرب إلى بلد آخر.
أخذوه إلى المخفر وجد نفس الضابط بانتظاره وصديقه المحامي طارق جالسين، ثم خاطبه الضابط وهو ينفث من سيجارته.
"ها أنت تعود إلينا مرة أخرى، من يدخل السجن يعود إليه مرة أخرى، تتعلم قدماه إنه إدمان السجن نيكوتين."
أما طارق فقد كان ينظر إلى فرحان بازدراء شديد وقنوط مرير، ثم قال له:
"له له يا نحيل لم أكن أتوقع أن يخرج منك هذا التصرف الكريه، طبعا أنا هنا لا لأدافع عنك بل لأقول لك كلمتين، هذا الرجل العجوز الذي سرقته فقد ثقته بآخر شخص وثق به، الكثيرون خانوه فقد تبرأ من كل أولاده بعد أن تركوه وركضوا وراء ملذاتهم، وهو مريض لم يبق له سوى أربعة أشهر من عمره كما قال الأطباء مؤخرا. كان يجد فيك شبابه وابنه وحياته ووثق بك كثيرا لكنك خذلته، أتعلم قبل أربعة أيام من سرقتك له كتب وصية وتركها عندي ولم افتحها ولكن بعد سرقتك زارني وتفقد وصيته وقراها علي كان مكتوبا فيها أن نصف أملاكه هي لك وتقدر بخمسين مليون، والنصف الآخر لدار الأيتام، ولكن بعد سرقتك غير من وصيته ونقل نصف أمواله لي والنصف الآخر لدار الأيتام."
تجمد فرحان في مكانه وفكر في السجن وبالفرصة الضائعة وتأمل طويلا بفرصة قادمة .