قامت حرب بين قبيلتين من العرب ، وتأججت نيرانها حتى سالت الدماء أنهارا . ولمّا وضعت الحرب أوزارها ، كان في من أسر فارس صنديد ، أبى تسليم سلاحه لإعتقاده أنّ الموت أهون من الخضوع للعدو ، وفرّ ممتطيا متن فرس له .فاندفع في أثره كوكبة من الفرسان ، وما أدركوه الاّ بعد أن أكثروا فيه الكلوم .فشدّوا وثاقه ، وحملوه الى محلّتهم صاغرا ، وطرحوه في خيمة كأنه من سقط المتاع. ولما كان الليل لم ينم الآعرابي من شدة آلامه ، وكثرة همومه . فسمع في جوف الدجى صهيل فرسه بين الخيول المحلّة فعطفت عليه عواطفه ، واشتاقت اليه نفسه ، وودّ لو يودعه .فجمع ما بقي من قوته ، وأخذ يزحف على ركبتيه و مرفقيه حتى بلغ اليه . فقال له وعينه عبرى وكبده حرّى: (( آه يا رفيقي ! كيف تصنع بك الأعداء بعدي ، ومن من هؤلاء الأراذل يقدم لك لبن النياق المصفّى ، وجيّد الشعير المنقّى ؟ وأنّى لك بعد الآن أن تسرح في الصحراء أخف من ريشة في الهواء . ارجع الى الأرض التي ألفتها ، وامرح مع أولادي ، وكل الشعير من أيديهم والعقها شكرا ! )) كل ذلك و الأعرابي يقرض بأسنانه عقال فرسه حتى انقطع .
فوثب الفرس على أرجله ، ودار ذات اليمين وذات الشمال كأنه ظبي يتعرف جهة الأرض التي نشأ فيها . ثم وقف بغتة حزينا ناظرا الى صاحبه موثقا .ثم طأطأ هامته اليه ، وشم جميع جسمه ، فوجد وسطه مشدودا بمنطقة جلد عريضة ، فعض عليها ورفعه عن الأرض وانطلق به كالبرق الخاطف . ولم يزل به راكضا حتى أوصله الى خيمته ، وألقاه أمام زوجته وأولاده وسقط هو على الأرض ميتا . فحزن الأعرابي على فرسه حزنا عظيما . وما زال يذكره ويردّد باكيا : ((فداني بروحه ! يا له من صاحب وفي و فرس أمين ! لتبكه العرب في الحجاز واليمن والعراق!))