السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بزغت الشمس باسمة الثغر أملا بولادة يوم جديد مثمر العطاء . وعلا صوت البلابل بين سحب السماء الناصعة البياض وكأنها تغازل العيون النائمة وتغريها بالنهوض
قائلة : ( هيا أنفثوا عنكم غبار الكسل وأستيقظوا لتنعموا بالدفء والأمل ) . أرتدت تلك البلدة الصغيرة حلي النور ونهضوا بتهليل للخالق سبحانه .
ومن بين كثير من البيوت كان بيته هناك منفردا عند حافة ذلك الجبل . بيت صغير بشرفة صغيرة وكأن ضباب الأسى يحتويه ، لا أصوات لا همسات سوى صوت
عقارب الساعة تصرخ في وجهه ليستيقظ من سباته غضبا وكأنه نام نومة أهل الكهف . فتح عيونه وهو على السرير بتنهيده قائلا : كفى أزعاج واصمتي لأنام
واستمرت العقارب بالضجيج لتجبره على النهوض وفعل . أزاح بيده غطائه وكأنه يأمل أن يزيل جميع أحزانه التي أثقلت كاهله كما أزاح ذاك الغطاء ونهض.
تكاد رجلاه تمشي وكأنه يجبرها على ذلك فهو سئم ذلك الروتين اليومي الممل _ وذهب لإعداد القهوة مخاطبا الصمت ،قائلا بحسرة متمنيا بأمل معدوم ،
يا إلهي ماذا فعلت ؟! لما كل هذه الوحدة تعتريني !! كم اتمنى لو أن هناك من يحتسي معي فنجان قهوتي
وتراودت لذهنه أيام الصبا وزوجته الراحله وبأسى حنيني ولدت دمعه ، واتجه الى كرسيه المهترئ وجلس
ناظرا من النافذة
التي حملت معه كل أحلامه العبقة بالمستحيل والتمني فقط . مرهقا نفسه بصفحات ماض أنطوى ، حزينا لمستقبل مجهول ، وهذا هو الأسى عندما يتمكن من
أحدهم . بأول رشفة من فنجانه نبع تساؤل أخافه حد الجنون ، هل سأموت وحدي هنا ؟ لا صوت لا صدى لا شيء سوى أثاث رث وذكريات معدومة ؟!!
تأوهات أصابته ذعرا جعلته ينهض بسرعه ويضع فنجانه جانبا وكأنه يريد الهرب من المكان لعل وعسى يطرد تلك الأفكار المجنونة حبيسة عقله .
أمسك ردائه الرث ومضى بسرعة مقفلا الباب خلف و ألم دفين يحتويه وكأننا بتغير المكان ننسى ما كان . مضى مسرعا بصمت وتتأجج أفكار سوداوية قطعها
جاره أحمد عندما ناداه بالاقتراب ليحتسي فنجان قهوة معه ، ولكن .. أبا محمد أشار بيده أنه لا يريد ولم ينطق وكأن الكلام يتلعثم عجزا عن الخروج من فيه.
واستمر في المشي دون أن يعلم إلى أين هي وجهته ، فقط هروب من صدى أصوات تزعجه وما زالت تلاحقه ، عبثا هي تتركه . وفي الطريق مسح عبراته
التي أغرقت وجنتاه لتستقر نظراته على شجرة سنديان ومقعد ، فهرع بخطوات تسابقه مضيا للوصول الى هناك قبل أن يجلس شخص اخر . وعند الوصول
تفاجىء أن ما شاهده هو سراب عيونه لأمل مرجوا معدوم ، وألتفت من جديد ليتراى لناظريه صبية وحديقة من الياسمين ، تزيين الفتاة الورود لتصنع طوق
من الورد تزين جدائلها ، فاقترب بين مصدق ومكذب لما يشاهد . وعندما هم بالكلام مع الفتاة ذهل أن مايراه مجرد أمنيات تتراى أمام ناظريه فبكى .
وبحرقة صامتة جلس على الأرض مطأطأ رأسه كخيل جريح ينزف . وما لبث إلا أن صرخ بصوت عال وكأنه يريد أن يفجر كل حزن وهم مكبوت داخله .
لعل وعسى يشعر بالراحة ويكتسب الهدوء بإفراغ تلك الشحنات السلبية التي أستلبسته . صورة هي بدت كسيناريوا تظهر أمام عيناه وتختفي .
بيت خاوي مظلم . وابن راحل تاركا له حنين الذكريات . ووحدة قاتلة حد الموت . ورجل مكابر بصمت على الرضوخ للواقع .
ماذا أفعل يا الهي ؟؟ ماهذا الاختبار الذي وضعت به ؟! ونهض ليعزم بينه وبين ذاته على تحدي ما أطلق عليه باستكانة روح لبراثين ألم متوحش .
شاكرا حامدا من أكتساه بالصحة ومن رزقه بولد بار يحلم أن ينتقل عنده ليعوضه تعب السنين . مقررا ترك كل ذكريات الألم والمضي الى حيث تولد
السعادة ، قائلا يجب التنازل عن الغرور والعناد حتى لا ننزوي في بقعة سوداء سجينو الألم والحنين . وهكذا مضى أبا محمد ليحضر حقبيته الصغيرة
وبعض من ذكرياته وعطر أحبابه الغائبين ويتوجه الى حبيب فؤاده يحتضنه لينسى أسى مافات ويقفل قصة أليمة ليبدأ بأسطر من أمل
وحياة بفجر صباح باسم ليس كصباحياته البالية .