يبدو أنها ستمطر..
لفت الكسوة جيدا في الورق باهت اللون و سارعت الخطى نحو البيت.. و إذا بالعجوز بثينه تظهر أمامها فجأة:
-ساره أخبرتني أن غدا هو اليوم الموعود..
-أي نعم يا خالة .. غدا ..سوفــ..
شدتها إليها في ضمة عنيفة و هي تختلج:
-و الله أنت ابنة حلال..تستحقين كل خير.. أني أدعو لك في صلاتي كل يوم ..
انحسرت العبرات بمقلتيهما لكن سارة وجب أن تصل للبيت قبل أن يفسد المطر رداءها الثمين..
-اعذريني يا خالة .. أستأذنك ..
-بل أسرعي عزيزتي لديك كثير من الاستعدادات..اجري للبيت هيا..
تقدمت خطوتين ثم عادت أدراجها و طبعت قبلة على رأس الخالة و مضت في هرولة .و هي تنعطف نحو الزقاق الضيق أخذت نفسا عميقا طأطأت رأسها و مضت تجري إلى اخر باب .كما توقعت تتابعت زغاريد خلفها و صيحات:
-ألف مبروك يا هدى. جاءت من العم سامح القابع على كرسيه بمدخل البيت
تبعها صوت خديجه الحاد مع وقع كفها على ظهره:
-تباركها على ماذا يا مخرف..غدا يتم الامر إن شاء الله و أتمت بعلو صوت:
-أتم الله مرادك على خير هدى.. نحتفي بك غدا إن شاء الله..
*****************
وصلت لمدخل البيت, و ما أن أدارت مقبض الباب حتى فتح على مصراعيه و أطل منه وجه منال ذات الأحد عشر ربيعا تبتسم ابتسامة الظافر حين رأت سيلا من المطر ينهمر حالما تخطت هدى المدخل..
-أحضرتِ الحلة من عند جميلة؟
-نعم و أنت? أوافقت ندى أن تعيرنك الحذاء و الحقيبة؟
-طبعا!! كدت أفجر أذنيها بحديث لا ينقطع..و أنا التهم الحلوى و العصير..
-ألم تقاطعك؟
-أتستخفين بقدراتي? لم أترك من محاسنها شيئا إلا نسجت فيه قصائد. تغزلت بشعرها و عيونها و ذوقها في الأزياء حتى لون طلاء حجرتها..كانت ستموت من الإحراج لو ردت طلبي ههههههه
-شقية .. عرفت أنك لن تخيبي ظني.
ثم أرسلت تنهيدة عميقة بلغت مسمع والدتها. فجاءت تحضنهما و غمرتهما بدعوات تطيب بها القلوب..
-لا حرمنا الله دعواتك امي.
دقت الساعه الثامنة صباحا و هي على الموعد في الردهة, تنتظر في شوق و ترقب! هل ستترك انطباعا جيدا؟ ماذا لو غلبها طبعها الخجول و لم تستطع أن تنبس بكلمه؟ ماذا لو نال منها الارتباك و تلفظت بما يخالف أعراف و طقوس هذا اللقاء.. ماذا لو..؟
و قبل ان تأتي الوساوس على آخر رمق من ثقتها, سمعت وقع خطوات وخرج رجل وقور الطلعة من باب جانبي..
-هدى صبحي؟
-نعم.
-تفضلي.. و إشار إلى الباب.
تخطته نحو المجلس على استحياء, ممسكة حقيبتها التي يكاد يسمع أنينها من حدة قبضتها.
*************************************
بعد ما يقارب الساعة خرجت هدى من القاعة لا تكاد تتمالك نفسها, و كأنها نسيت كيف تمشي..أو هو الحذاء المستعار .لم تكد تغادر المبنى حتى لمحت سائق تاكسي شاغرة عربته من الركاب.
-أتنتظر شخصا عمو؟
-انتظرك أنت أستاذة
خفق قلبها و كاد يقف من الخوف..
-قاتل الله مزاحي الثقيل..دائما تحذرني زوجتي أنه سيجلب لي مصيبة.لا أقصدك أنت بنيتي. أعرف أن في هذا الوقت من السنه الزبائن هنا كثر.تفضلي .. من أي حي أنت?
-حي السمراء
-آه .. لي صديق قديم هناك .. ألا يزال الكابتن سامح بالجوار?
-عم سامح ? زوج ..
-خديجة.. أي نعم..كابتن سامح كان رمزا في الشقاوة و العبث …
استمر السائق في الحديث و هدى محلقة في عالم آخر موازي .. أنساها أزيز المحرك و لفعة الحر و روائح شي أصحاب العربات.
مدت له الأجرة و شكرته سريعا و مضت تحف الخطى نحو البيت.. لولا خشية أن تفسد الحذاء المستعار لقطعت الحي عدوا..
***
لا يزال أهل الزقاق داخل مساكنهم .. ما من أحد يعترض طريق الخبر قبل أن تبلغ آخر الزقاق..
ما كادت ترفع يدها لتطرق الباب حتى فتحته منال و عيناها واسعتان; تتمعن قسمات أختها لتستقرئ الخبر..
حاولت هدى أن تطيل انتظارها لكن ابتسامة عريضه أفضت بالسر و انطلقت صرختا فرح مجلجلتان بكل الحي...
انتفضت الأم من مجلسها و ما إن لمحت ابنتيها تتعانقان حتى انبثقت من بين شفتيها زغرودة هزت المكان كأنها من حنجرة فتاة في العشرين ..
في أقل من لحظات أقبلت نساء الحي كله تباركن لأم هدى على البشرى تهنئن و تنثرن الحلوى و المكسرات ..
و اجتمع نفر من الصبيان و الصبيات متشابكي الأيدي في دائرة مرددين في نغمة رنانة تحملها الريح للأحياء المجاورة:
دكتوره !.. دكتوره! ..بنت صبحي دكتوره!...