مرت بضع شهور على وفاة زوجها، بدأ المال الذي حصلت عليه كتعويض من شركة سيارات الأجرة ينفذ، ثلاث صغار لن يفهموا معنى الزهد أو التقشف، إذا لا بد من التصرف.
أخذت الهاتف وقامت بالاتصال بأخيها الأكبر، أخ ميسور الحال، لن يضيره أن يلقي ببعض دريهمات على أهل بيت أخته كصدقة، فالصدقة في المقربين أولى. لكن وجدت هذا الأخ لا يعرف سوى العتاب إذ أجابها قبل الطلب حتى بقوله:
-أنت من اخترته دون رضانا، أرأيت الآن نتيجة قرارك؟ تذوقي الفقر والمحن علك تعلمين فداحة رفضك لرئيس عملي الغني، تعللت بكبره على الأقل بعد وفاته تنعمين بخيراته لا تمدين يدك لتسول كحالك الآن.
أغلق الخط تاركا إياها تقارن معادن البشر، أخطأ أن تختار الدين والخلق لتكمل حياتك في كنفهما راضيا قانعا سعيدا؟ أصار الناس يختارون المال بغض النظر عن مصدره؟ كيف تقبل بسكير يسرق عرق جبين الكثيرين؟ فكم حكى عنه أخوها من زلات، لكنه ما لبث أن رغب في بيعها له لينعم معها بالخيرات كما ذكر. سحقا لأخ مثله حتى ولو كان الأكبر.
بدأت تتأمل الهاتف، تبحث عن رقم أخيها الأصغر، لا تراه سيصدها كما فعل الآخر. ترددت بالاتصال، لكن رؤيتها لفلذات كبدها جعلتها تملك الجرأة للاتصال به والقوة للصبر على لذعة قوله أيضا، رن الهاتف مرارا وأخيرا أجاب:
-حياة، تراك تذكرت أن لك أخا الآن؟ حين طردني زوجك يومها لم تنبسي بكلمة، ما إن رحل حتى عرفت من باق لك؟
شكرته كونه ذكرها بفعلته ثم أغلقت الخط. جاء مرة لطلب المال منها يكمل به قسطا من جامعته، لم تكن تستطيع إقراضه فقد كان مدخول زوجها حينها لا يكفي سد رمقهما فكيف به يتعداه للقرض أو الإعانة، هنالك بدأ يعاتبها على اختيارها العت، ويعيرها بفقر زوجها،الذي ما إن دخل وسمع كلماته حتى طلب منه ألا يعتب عتبة باب الفقير حتى لا يفتقر أيضا. لم تعلق فلطالما كانت زوجة صالحة له ، البيت بيت زوجها لن تدخل إلا من يأمر باستضافته ولن تعصي له أمرا ما دام لا يخالف شرع الله.
هنا علمت أنها دون عائلة، ما إن توفي والداها وزوجها حتى غدت وحيدة الدنيا، إذن عليها العمل لتوفر حاجيات البيت. بدأت تنظر للرضيعة التي تحبو، هل تأخذها للعمل في بيوت العباد؟ منذا يقبلها وابنتها معها؟ جربت حظها لربما ترأف إحدى السيدات بحالها، لكن دون جدوى. فمعظمهن رأينها ستلتهي بصغيرتها فلا تجيد العمل. بدأت تمر الأيام دون جدوى تذكر. فقررت بعدها القرار الذي تذرف عليه دما قبل الدمع، ألا وهو التسول. نعم، أن تمد يدها للغريب عله يرأف بحالها بدرهم أو درهمين، أو يشتري لقمة لصغارها رأفة منه بحالهم، بعد أن قست قلوب الأهل. بعد أن تعبت من التوسل للنساء للحصول على عمل شريف يغنيها حان وقت التسول.
هنا فقط عاتبت نفسها على ذمها للمتسولين، 'كان حريا بهم أن يبحثوا عن عمل شريف بدل مدهم أيديهم للناس يعطوهم أو يمنعوهم' هنا عرفت أن الظروف أقوى من المبادئ، فخرجت وجلست على الرصيف ومدت يدها لا تقدر على رفع رأسها وكأنها ترتكب جريمة لا تغتفر.
مد لها أول شخص درهما بدأت تنظر إليه وكأنه نار تحرق يدها، أحست بالذل لأول مرة في حياتها، فقامت آخذة صغارها لبيت أخيها تطرقه متوسلة إياه أن يسمح لها بخدمته مع صغارها، تكنس وتخبز وتطبخ وتقوم بشؤون البيت، ابنها أحمد ابن العاشرة يعتني بالحديقة، وسعاد ابنة الثامنة تعتني برضيعتها في السطوح إن لم تتوفر غرفة لهما إلى أن تنتهي الأم من العمل. لم يجد أخوها عادل أي وجه ليعترض بعد أن ارتمت على رجليه تقبلهما وتنوح نواح المسلوبة كرامته.