ما هي إلا لحظات بعد اقلاع الحافلة التي كانت تشق طريقها تحت أمطار يناير... حتى انتفضت امرأة في عقدها الثالث ... قبح الله وجهك أيها المنحط .. ابتعد عني ..... مخاطبة رجلا أشهب الشعر، عريض المنكبين، يتوسط وجهه الشاحب من برودة الطقس شنب مهذب الشكل ...
و هنا أطلق الرجل صوته بوابل من الشتائم المستفزة، تتصنع ملامحه إنعكاسات الدهشة ..اللعنة.... ما خطبك يا امرأة ؟!!! ماذا تقصدين ؟
-حقا؟!! يا حثالة الرجال .. ألا تعلم ماذا أقصد؟
-أمسكي لسانك و لا تختبري صبري...
هنا تدخل قابض التذاكر لفض الشجار بطريقة دبلوماسية... إلا أن المرأة تشبثت برأيها و استنكارها فعلته الشنيعة في حقها.
تطاولت أعناق ركاب الحافلة التي كانت تقل عددا يفوق عشرين راكبا كلهم رجال، ما عاد تلك السيدة التي تعود متأخرة بحكم عملها كمنظفة بإحدي المؤسسات العمومية بدوام جزئي بعد انتهاء دوام الموظفين.
كانت الأعين و الآذان تتلصص لتعرف حقيقة هذا الشجار الغير متكافئ ...
يهمسون لبعضهم البعض بعد أن طلـَّـقوا هواتفهم الذكية و جرائدهم اليومية لهنيهة من الزمن متسائلين... ماذا حدث ؟ لما هذا الشجار !!؟... ثم تطايرت بعض الكلمات برنات مختلفة بعضها جهوري و الآخر رخيم ... تحرش بها ... التصق بها ...... و كلمات أخرى مبهمة .... ثم ساد الصمت من جديد تخللته أنفاس تلك المرأة الملتهبة غضبا من قلة الحيلة ... لترفع صوتها من جديد مخاطبة ركاب الحافلة .. ويح نخوتكم و رجولتكم .. رجل تحرش بي و أنا وسط عصبتكم و لم تحركوا ساكنا !!!..
و جاءها الرد من آخر المقعد في الحافلة : لو مكثي في بيتك معززة مكرمة و لم تخرجي في هذا الوقت المتأخر لما تحرش بك الرجال.
كان رده قاسيا فاق قساوة التحرش الجسدي ... فقالت بنبرة هادئة .... لو بقيت في بيتي لمات أطفالي جوعا و ماتت والدتي مرضا في زمن نسي الإبن أمه... و جار الأخ على أخته و أكل العم مال أولاد أخيه اليتامى ....
ثم نادت على سائق الحافلة ... سيدي الرجل أوقف الحافلة عند أول موقف، فلا يجتمع الشرف و قلة النخوة في مكان واحد، و ترجلت هي من الحافلة.. و عقد القران من جديد مع السادة الرجال و هواتفهم الذكية، و جرائدهم اليومية.