كان يتنفس بعمق، يحمل كل الآلام بين ضلوعه ويفكر ماذا سيكتب لأبيه، وأخيرا أمسك طارق القلم وبدأ حبره يسيل على الورقة " أبي، وصلني خبر اصابتك بالمرض، وإني والله لحزين ولكن رحمة الله كبيرة.. فلا تيأس.. إن الله قادر على كل شيء،، أخي إن ظروفي في بلاد الغربة تمنعني من زيارتك ولكني سأحاول رؤيتك في أقرب فرصة... ابنك"
وضع طارق الورقة في ضرفها ومضى إلى مكتب البريد تغالبه دموعه، فكلما سيطر على أحد عينيه كانت تباغته الأخرى بدمعة أبت إلا أن تسقط.
كان الأب يضع منديلاً على رأسه ويغطي فيه ذقنه وفمه... وظهر جسده هزيلاً متعباً حينما دخلت عليه الممرضة حاملة رسالة ابنه إليه، أمسك الرسالة بيده وبدأت الدموع تتساقط على خديه ويمسحهما بالمنديل وأخذ يتمتم بحرقة " ماذا أريد برسائلك.. فقط أريد أن أراك قبل أن أموت"
يقرأ الرجل الستيني الرسالة وعبراته تخنقه، يبحث بين الحروف عن أي عاطفة أسكنها الابن فيها فلا يجد... يبحث حتى عن أي شفقة فيها وأمل يشيران لرغبة حقيقية لدى ابنه بأن يراه.. فلا يجد!
يضطجع العجوزعلى جنبه الأيمن ويلتصق بالجدار.. فيغمض عينيه كطفلٍ يهرب إلى عالمه الخاص حينما يعنفه أبيه، وفجأة يتكيء بظهره على الجدار ويمسك رسالة ابنه ويكتب على ظهرها: " أي بني.. لم أرغب في هذه الحياة إلا باسعادك، ولم أبحث خلال هاتيك السنين سوى أن تكون مرتاحاً... لا عليك مني يا بني.. المهم أن تنتبه إلى نفسك وسأكون بخير " فيلتحف الأب الغطاءَ ويذهب في سبات طويل.
كان طارق يهمّ بالخروج من مكتبه حينما صاح عليه ساعي البريد بأن له رسالة، فأخذها ومضى باتجاه المخرج، وعندما أراد قطع الشارع للوصول إلى سيارته توقف فجأة وفتح الرسالة وكأنه كان قد نسيها بين أصابعه، قرأها بصمت وشعر أن كل شيء بخير، أو أراد أن يتهيأ أن كل شيء بخير، فأكمل مسيره، وما أن كاد أن يخطو خطوته الثانية حتى جاءت سيارة مسرعة فألقته بعيدا... وقبل أن يصل المشفى كان قد فارق الحياة!.
لم تكُ تلك السيارة سوى قدراً ألقى بطارق بعيداً عن الحياة بعد أن ألقى بنفسه هو بعيداً عن والده، ولم يكُ يعلم الأبُ أن تلك السعادة التي يتمناها دوما لابنه الوحيد ليست الا مجرد أمنية قد يأخذها القدر .. على مهلٍ في أية لحظة!
كل يوم يمر كان العجوز يشعر بالألم أكثر... هو الوجع الذي يقيده في السرير ووجع أكبر هو انتظار الموت وفقدان الامل في رؤية ابنه قبل أن يموت... وفجأة شعر الأبُ بأنه سيراه.. بل إن ابنه قادمٌ اليه في المصعد! وعلى غير العادة وقف الأبُ على قدميه ومشى باتجاه الباب وأخذ ينظر في الممر وهو يشعر أن ابنه قريب منه وسيظهر في أي لحظة .. التفت إلى كل الوجوه .. وامعن في كل العيون .. فتهللت أسارير وجهه وابتسم ابتسامة كبيرة كمن ارتاح بعد عناء.. أو كمن التقى بأحبته بين السماء والأرض..
فافترش جسده الأرض ومات.