قلب سقيم يحاول أن ينبض
دخل المنزل بعيون تحاول خنق العبرات التي تمردت عليها و لم تعد طائعة لها، جلس بمقربة من فراش أمه العجوز التي فتكت العلل بصحتها فأردتها طريحة الفراش لا تبارحه إلا بصعوبة كبيرة، أخبرها أنه قد قبل في الوظيفة التي قدم لها مؤخرا، فجأة نهضت أمه من سريرها بصعوبة و جلست و هي منتشية بالخبر، و أحست أن سعادتها لا يمكن أن تحتويها الكلمات.
- قالت له بصوت متقطع بسبب دموع الفرح التي أتت بعد جفاء. :" هذا هو اليوم الذي كنت أنتظره و قد علمت سلفا أن الله لن يخيب أملي ، أنت هو كل ما أملك و قد دفعت شبابي كله ثمنا رخيصا من أجل أن تكمل دراستك و تنال الشهادة ، و بعد أن نلتها لم تقبل في أي وظيفة لكنني لم أقنط يوما من رحمة الله تعالى و كنت متيقنة من أن ما حدث الآن كان سيحدث عاجلا أم آجلا"
ظل يحدق فيها مصدوما من كلماتها التي أحس كأنها سم يتجرعه دون أن يحرك ساكنا، كيف له أن يسامح نفسه و قد قال لها ما قاله ، لقد كذب عليها و أوهمها أنه حصل على وظيفة عمومية لكنه في الحقيقة لم ينل شيئا و مازال ذلك الحارس الذي يعمل في موقف السيارات مقابل دريهمات قليلة، لكنه يعلم أن قلب أمه الضعيف من الصعب أن يتحمل صدمة أخرى فلقد حذره الطبيب من أن يخبرها أخبارا محزنة فهذا يضر بصحتها، فعلا هو تقدم لمباراة توظيف لكنه لم يقبل، و هذا الفشل كان من شأنه أن يزيد من تدهور صحة أمه العجوز.
لقد كانت كلماتها تقطع قلبه ، فهي لم تكف عن حمد الله و شكره و الدعاء له بالتوفيق في عمله الجديد، أحس برغبة في البكاء لكنه كان يقاتل دموعه لكي لا تلاحظ أمه شيئا، ظل يحارب تلك العبرات التي سئمت المكوث في مقلته.
ودع أمه و انصرف لعمله المرهق،و بعد ساعات قليلة طرق باب والدته لتفاجئ هذه الأخيرة برجال الشرطة الذين لم تعتد أن تراهم في بيتها، أركبوها سيارتهم و لم يخبروها بشيء و بعد أن وصلوا للمكان المقصود أمسك الشرطي يدها لكي يساعدها على النزول من السيارة، و بعد أن نزلت صعقت برؤية ابنها ممددا على الأرض ملتحفا لحاف الردى، لم تصدق الأم ما رأته بعينيها لكن الشرطي أخبرها أن ابنها صدمته سيارة شاب من عائلة غنية لا يمتلك رخصة السياقة، احتضنت الأم وليدها و أحست و كأنه للتو قد ولد و كأنه يحتاج حليبها، رأت وجنتيه و قد غسلتهما الدموع، فعلمت بعد ذلك أن تلك الدموع التي كان يخفيها من أجل مرضها قد تحررت منه ،فمحاولاته المتكررة في حبسها باءت بالفشل الذريع لكن لحسن الحظ لن يكون شاهدا على هذا الفشل فقد تذوق طعمه طيلة حياته و ها هو الموت الآن يخلصه من رؤية فشل جديد .
بعد الجنازة عادت الأم إلى فراشها و هي تحاول محاربة حزنها لكي لا يضر بقلبها السقيم الذي عاش ابنها كل حياته و هو يحاول إبقاءه ينبض بالحياة.