كان هناك قرية يطوقها سور عالٍ وبوابة كبيرة يجلس عندها الحارس وهو رجل عجوز ورغم تقدمه في السن لكن وجهه العامر بالاِيمان يرفل بالصحة.
كان الحارس يحرس البوابة عند وقت غسق الليل اِلى وقت الفجر فلا يدع أحد يدخل أو يخرج غير مختار وعمدة القرية الذي يعطيه عملة ذهبية نظير اِخلاصه وتفانيه في حراسة أهل القرية حينما ينامون.
كان الحارس يحتفظ بطيور الحمام عند مكان حراسته وقد وضعهم في قن دجاج قديم ومهترىء فأصلحه من أجل أن يكون مريحاً وآمناً لطيور الحمام، وعندما يأتي ضبع ضاحك أو كلب مسعور يمسك بعصاه فيطوح بها في الهواء فيفر الكلب أو الضبع. وعندما يأتي ذئب أو أسد أو لبؤة يستل مسدسه من خاصرته فيهرب الوحش ويعود الأمن والأمان له ولطيور الحمام ولأهل القرية النائمون والذين يرون في أحلامهم أنهم في الجنة.
كان الحارس يطبخ الشاي على الفحم وينظر للقمر المنير أثناء سماعه لأغنية "خايف أقول اللي في قلبي تتقل وتعاند ويايا" للمطرب العملاق عبدالوهاب من خلال صندوق الأغاني العجيب. وتجعله هذه الأغنية يذهب لعالم بعيد وكوكب قصي تقبع فيه الأمنيات العزيزة والأحلام الغالية.
كان العمدة ومختار القرية رجل خبير بأمور الحياة وبفضله ما زالت القرية تقف على أقدامها، ولكن للعمر أحكام وللسن حق على الاِنسان والهرم والكهولة سنة من سنن الحياة. فهو ينسى أحياناً ويخرج من أجل تسوية أعماله ولكن في وقت متأخر اِذ تكاد تفوته المواقيت والأشياء البديهية للاِنسان صاحب العقل الراجح.
وذات مرة جاء العمدة وسأل الحارس عن السنة فعرف الحارس الطيب أن العمدة قد كبر بالسن وصار ينسى الأيام والسنوات والمواعيد ولكنه أجابه بكل حب واحترام (نحن في سنة 1930 ميلادية يا سيدي النبيل) ثم واصل وقال للعمدة بأدب جم (سيدي النبيل، اسمح لي أن أنصحك بأن تلتزم بيتك في هذا الوقت المتأخر من الليل الحالك السواد لأن الجو بارد والضباع والأسود تحوم حول القرية والخفافيش مختبأة في أشجار الليلك التي تنبت عند الجبال المطلة على البحر المالح الذي تبخر ولم يبقى منه شيء بعدما وصل لمرحلة الغليان بسبب حرارة الشمس الملتهبة فأصبحت الأرض سبخة وقال الشاعر وأسبخت الأرض فصار وشيكاً خروجه والعياذ بالله منه، والصيادون ماتوا هم وعائلاتهم من الجوع والفقر، وخسرت بذلك قريتنا أكبر مصدر دخل لها من بيع الأسماك، ولكن يبقى الخير والبركة فيك يا سيدي)
تجهم وجه العمدة باِمارات الألم والهم وكاد أن يبكي لكنه تمالك نفسه وقال بعدما أخذ نفساً عميقاً (اِيه. يبدو أني قد كبرت في العمر وأصبحت غير قادر على تحمل مسؤولية القرية)
فأسرع الحارس يقول بحماس ليشد من عزيمة العمدة وكبير القرية (أنت مختار القرية وكبيرها، أنت من وجهاء البلد ومن خيرة رجالاتها، وسنظل خلفك ونحن لا شيء بدونك لأنك تاج رأسنا)
قال العمدة (الله يرضى عليك ويرحم والدي ووالدك)
ثم قال وبدا أنه يحدث نفسه (والآن سأعود اِلى الدار لأني أحتاج اِلى الراحة وسأضع أرجلي في وعاء مستدير يحتوي على مياه ساخنة وملح وسأطلب من اِبنتي الكبيرة حفظها الله أن تحضر لي طعام العشاء واِبريق شاي تطبخه على الفحم الأسود فيتخدر لكي يعدل المزاج والرأس فرأسي مصاب بالصداع نتيجة مشاكل أهل القرية).
وبدأ العمدة - كعادة الرجال المسنين- يتحدث ويفكر بصوت مسموع ومرتفع (أوه صحيح، وسأطلب أيضاً من زوجتي وبعلتي وأم عيالي أن تطوف بالمبخرة في أرجاء الدار بعد أن تضع علي الجمر المسك واللبان والصندل والعود الأزرق واِني أتمنى أن لا تتحجج بالتعب وتقول لي أنا تعبانة ذلك لأنها كسولة ونزقة وأخشى أن يثور غضبي عليها فأضربها على رأسها فأنا رجل غضوب وشديد وشأني ليس قليل!)
(بالله عليك أن تهدأ يا سيدي)
(هل سمعت حديث النفس الذي أجريته بيني وبين نفسي منذ لحظة؟)
(أجل يا سيدي)
خاف الحارس على صحة العمدة وأجلسه وقدم له قدحاً من الشاي الساخن فاحتسى المختار كوب الشاي وقد هدأ، ولما اطمئن الحارس على صحة العمدة، سأله (اغفر لي وقاحتي يا سيدي لو سألتك سؤالاً خاصاً. ما خطب زوجتك؟)
(اِنها نكدة وهوجاء، تريد أن يكون لها شخصية قوية ورأي مسموع بطريقة خاطئة، اِنها تستمع لنصائح جارتها وتأتي اِلي لتطبقها وكأني فأر تجارب!)
(عليها أن لا تفعل ذلك، لو كانت زوجتك تعرف أن الرجال الأشداء اللذين يقف على شواربهم النسر يرتجفون أمامك لضربت لك التحية في كل لحظة وحين)
(هي تعرف ذلك يا صديقي ولكنها تتظاهر بعدم المعرفة أحياناً)
(كان الله في عونك يا سيدي)
(أنا الآن ذاهب للبيت. كن بخير أيها الرجل الطيب)
(وأنت كذلك يا سيدي وصديقي الطيب، ولا تهتم لكلام جارة زوجتك لأنني سأوبخها وأحذرها بأنني سأجلب لها ضرة ولي زوجة ثانية اِن استمرت في اِزعاجك!)
وتصافح الرجلان وحيا كل واحداً منهم الآخر، وقال العمدة (رغم السنين والظروف التي أجبرت كل واحداً منا أن يشغل وظيفة مختلفة عن الآخر بالنسبة للناس، لكننا ما زلنا أصدقاء وأحباء وجيران)
ضحك الحارس ووضع يده على كتف المختار وقال وعلى وجهه ابتسامة واسعة (وزوجتي وزوجتك صديقات وجارات تسببان المتاعب لنا وما أجمل هذا على قلوبنا في حقيقة الأمر)