كان هناك شاب حزين يبكي بحرقة ومرارة وركب القارب ليبحر به بعيداً عن المدينة التي تحطمت كل أحلامه فيها فناداه صوت رقيق وعذب من خلفه. كان الصوت لفتاة باكية وطلبت منه بخشية واِنكسار أن تركب معه لأنها هي الأخرى قررت الذهاب بعيداً عن المدينة التي وجدت فيها الظلم والخذلان وخيبة الأمل.
أذن الشاب واِسمه رامي للفتاة التي اِسمها استبرق وتصافحا وعرف كلاً منهم اِسم الآخر. أخرجت استبرق من الكيس الذي معها كعك محلى وزبدة وشطائر نقانق وعصير توت فأعطت رامي من الطعام والشراب فلما تناول منها شعر ببعض الاطمئنان وشكرها على كرمها فابتسمت استبرق بحنان وقالت (بل الشكر لك يا صديقي رامي لأنك سمحت لي بالهجرة معك اِلى المجهول. في الواقع لقد علمت أنك تحمل في جوفك الأوجاع والهموم من خلال النظر اِلى جسدك النحيل ووجهك المهموم فقررت الذهاب معك والابتعاد من هنا لأبعد مسافة ممكنة حيث لا تصل اِلينا أصوات هذه المدينة المقفرة).
أبحر القارب بالفتى والفتاة وغابت الشمس وبعد لحظات حل الليل وكانت النجوم ذات بريق مُشع والقمر يضيء لهم الليل. استمتع رامي واِستبرق بالطعام والشراب وكان القارب الذي يحملهم فوق سطح الماء قد أعطاهم السلام الذي داعب بدوره أرواحهم.
قامت استبرق تحدث رامي بقصتها فقالت (اسمع يا صديقي رامي. لدي صديقة غدرت بي وطعنت ظهري وأخذت صديقي مني ليتزوجها هي بدلاً مني بعدما قدمتُ لها كل أواصر الصداقة والمحبة النبيلة. كنت أشرح لها مسائل الرياضيات والجبر وأساعدها في تصحيح الأخطاء الاِملائية عندما تكتب مقالات باللغة الألمانية. وكنت أطبخ لها طعام العشاء وأستقبلها في منزلي. وأسهر معها عندما تكون مكتئبة أو حزينة. تخيل معي يا صديقي رامي أنه وبعد كل هذا الصنيع والمعروف الذي قدمته لها تعاملني كمنافس وخصم في أي موقف جاد أو هزلي. باختصار لم يعد لي أحد في هذه الدنيا. لا حبيب ولا صديقة، ولا أحد يستحق شيئاً ولكني أدركت ذلك بعد فوات الأوان).
وما أن انتهت استبرق من قصتها حتى انهمرت في البكاء كطفل رضيع أضاع أمه في السوق فربت رامي على كتفها وقال لها بلطف (اسمعي قصتي يا استبرق لعل مصيبتك تهون عليكي) فتوقفت استبرق عن النحيب وأصغت لرامي باهتمام.
قام الشاب بسرد قصته، وقال (ليس لي أب محب أو عادل في هذا الوجود وأمي ضعيفة مسكينة عاجزة لا تستطيع مساعدتي. كان أبي رجل أناني لا يفكر اِلا في نفسه عندما كان شاباً وقوياً ولم يهتم لمستقبلنا أنا وعائلتي، كان أبي يضربني في أيام طفولتي والآن يريد مني أن أحبه!. لقد أصبحت مكتئباً ومريضاً بأمراض نفسية بسبب الظروف القاهرة التي تعرضت لها في حياتي. لقد صنع والدي قرارات خاطئة وأنانية دمرت بذلك مستقبل العائلة بسبب الرهان والجهل والعنف ويريد مني أن أدفع الثمن من عمري وحياتي وشبابي الذي راح وصحتي النفسية التي تحطمت وأمسيت شبه مجنون).
بعدما سرد الفتى قصته للفتاة انخرط الاِثنان في بكاء عنيف لدرجة أن الأسماك الصغيرة من حولهم بدأت تقفز من البحر وظن رامي أنها انزعجت من الضجيج الذي أحدثوه ولكن استبرق أرجعت السبب لتأثر الأسماك وحساسيتها العالية بقصتهما فأحبت أن تشاركهما تعاطفها ومواساتها.
وأبحر القارب بالفتى والفتاة حتى اختفى بهم اِلى المجهول ولا أحد يعرف ماذا حل بهم. نتمنى لهم السلامة في رحلتهم والتوفيق في حياتهم والسعادة اِذا كانوا موجودين على الأرض أو الرحمة اِذا رحلوا للعالم الآخر.