هناك في الدور الأخير لإحدى العمارات الآيلة للانهيار،وفي شقة متواضعة كصندوق مهترئ لا يكاد يتحمل حتى وزنه،جلس سليم على كرسي بسيط، أمام نافذة مُطلة على سوق يومي لا يبعد سوى ببضعة أمتار عن باب عمارته،إنه في حالة شروذ تام،فمنظر السوق المكتظ بالناس و العربات الواقفة وكذا المجرورة،والحركة الدؤوبة لبائعي الأكياس البلاستيكية والسجائر بالتقسيط،وأصوات الباعة التي تصدح بها جنبات المكان،لم تترك فرصة لعينيه السوداوتين كي ترمشا على طبيعتهما.
وهو على تلك الحالة تنهد من اعماقه وقال في قرارة نفسه،آه يا زمن،فالعيد على الأبواب... وأدار وجهه ليرمق يومية بسيطة علقت بمسمار صدئ معقوف،ثم عاد يكلم نفسه من جديد: يومان فقط،ولا قرش أبيض أو أسود في الجيب،من أين لي بثمن الأضحية،ومن أين لي بالجرأة على طلب قرض آخر وأنا الذي لم يترك لا قريبا ولا صديقا إلا واستلفت منه المال خلال الأشهر الماضية،فمنذ إعلان إفلاس الشركة التي أفنيت فيها زهرة حياتي،وأنا أتخبط في أزمة مالية لا قرار لها ولا أساس،عانيت الأمرين وأنا أبحث عن عمل كريم أحفظ به ماء وجهي،وتعبت نفسي من نظرات الحرمان البادية على فلذات كبدي،فنبيل ذو الأربع سنوات اضطررت لمنعه من الذهاب إلى روض الأطفال،وابنتي الصغيرة نهيلة لم تفرح منذ مدة بلعبة أو دمية مثل قريناتها .
مرت ساعتان وهو يفكر بلا جدوى ،فقد درس جميع الإحتمالات الممكنة ولم يخرج بأي نتيجة تذكر.
الإقتراض فرصه ضئيلة،أثاث المنزل البسيط لا أستطيع بيعه ولن يأتي بما يكفي حتى لو بعته.الطرق غير الشرعية ... أكيد لا ثم لا.فلن أتنازل عن إستقامتي ونزاهتي ولو في ظروف أحلك من هاته.
تراءت أمام عينيه صورة زوجته السعدية.سنده الوحيد، فلولاها لا كان قد اقترف في حق نفسه إحدى أكبر الكبائر .فكم مرة فكر في الإنتحار ورأى فيه حسب تصوره الغالط مفرا سالكا لتجنب مضاعفات الإكتئاب الحادة التي أرقته لليال عدة.
فقد مثل وشبّه كل يوم يمر بلا دخل كمسمار يدق في نعشه الخشبي ،وهاهما مسماران لا غير ويصبح جاهزا للتشييع والدفن.
آه ما العمل الآن،فكلما تعالت أصوات أكباش الجيران أحس بقلبي يتوقف عن النبض وبدمي يتجمد من قَرِّ الألم الدفين.
أدار زر المذياع الموضوع فوق الطاولة بجانبه الأيمن عسى أن يسمع ما يلهيه ولو لبعض الوقت،لكن ظنه خاب وزاد ما تمنى له النقصان،فالبرنامج المبث حينها كان حول عيد الأضحى ومايرافقه من تدابير وإجراءات،وأجاب بإزدراء طبيبا كان ينصح الناس برمي الرئتين والكبد إذا لاحظوا عليها بقعا بيضاء: أين هي الكبد يا عزيزي ،حتى أرى أ بقعها بيضاء أم صفراء اللون،وبلا تفكير ضغط على زر الإيقاف.
غاب من جديد في دوامة لا متناهية لم يخرجه منها سوى صوت ابنه الرقيق المتقطع والغير مفهوم :بابا...سرطي ..بابا سرطي.نزلت تلك الكلمات كقطع ثلج باردة على صدره وسيل من الأفكار السوداء اخذت تشق طريقها إليه،أهو يا ترى أحد الدائنين لم يصبر على تأخري في سداد دينه وبلغ عني ...؟
لكن صوت زوجته الجهوري خلصه من هلوسته سريعا بقولها أنّ ساعي البريد أمام الباب في انتظار قدومه.تنفس حينها الصعداء وخرج متثاقلا،كيف لا وأطرافه قد تيبست قبل قليل.
ما إن لمحه الساعي حتى بادره مبتسما:أبشر يا سليم،فعلى ما يبدو قد جاءك الفرج. وأشار له بحوالة نقدية بيده .تسلمها المعني بالأمر وهو في كامل ذهوله وأخذ معها رسالة مُرفَقة، أمضى بعدها في سجل التسليم بلا شعور ونسي حتى شكر مبشره وتوديعه،لكن الأخير قدر حالته النفسية وذهب مبتسما.
تفحص الحوالة بسرعة ونظر لإسم المرسل مُكلِّما نفسه بصوت غير مسموع،آه نعم،إنه هشام ،صديقي وزميلي السابق في العمل،فقد تركنا قبل سبعِ سنوات بعد حصوله على عمل جيّد وإقامة دائمة بالولايات المتحدة الأمريكية،أكمل تفحصه باحثا عن الأرقام التي تشغل باله،فأطلق ضحكة هستيريه وهو يرمق المبلغ،الحمدلله هذا ما تمنيته،لدي الآن ما يكفي لجلب الأضحية وسداد ما بذمتي من ديون ومصروف يكفينا لمدة ليست بالهيّنة،الحمدلله...
تفحص بعدها الرسالة عسى ان يلفي أجوبة لتساؤلاته الكثيره:
السلام عليكم ورحمة الله
صديقي العزيز سليم...
أكمل القراءة سِرّا ثُمّ خاطب زوجته الواقفة أمامه وعلامات الفضول بادية على ملامحها :أتذكرين صديقي هشام؟
ردت عليه السعدية بالإيجاب مضيفة :ومن ينسى الأصدقاء الأوفياء،فقد كان الوحيد الذي وقف بجانبك في أزماتك السابقة قبل هجرته الى الخارج،لكن ما الذي ذكرك به الآن؟
أجابها مبتسما:أجل عزيزتي،فقد علم صدفة بإفلاس الشركة واتصل بأحد أصدقاءنا القدامى وعلم من خلاله بحالتنا الراهنة فأخذ منه كل التفاصيل ،ثم أرسل لي حوالة مالية أنهت أزمتنا حاليا، كما أخبرني أنه سيفتتح عمّا قريب معملا لصناعة النسيج في مدينتنا وسيكون سعيدا لو قبلت بتسييره كما كلفني في حالة موافقتي بتشغيل كل عاطل من الزملاء الآخرين...
فرحت السعدية كثيرا وحمدت الله وشكرته وذكّرت زوجها قائلة:ألم أقل لك دوما ألا تقنط من رحمة الله وأن بعد العسر يسرا.
غيرسليم ملابسه بسرعة وخرج من البيت حاملا وثائق تعريفه لاستخلاص الحوالة ليشتري ما يلزمه لمناسبة العيد وهو يقول في قرارة نفسه:
اللهم فرج كروب كل المؤمنين والمؤمنات كما فرجتها عني،آمــيــن يا رب العالمين.