و هو هناك منسي وراء المتاهات ، طارت بقلبه العاشق الأشواق الى رؤيتها . دعا ربه كمتعبد في خلوة نائية
فكان أن هتف به هاتف : قم فدعاؤك مستجاب و تهيأ لرحلتك الطويلة و استعد للحظة اللقاء الرهيبة . فخرج الرجل قاصدا تلك الثغور .
ركب القطار المتوجه نحو الجنوب ، فوجد نفسه وجها لوجه مع امرأة ثلاثينية . المرأة تحدق في وجهه
و هو ينظر عبر النافذة الى الأشياء الهاربة تباعا فتلوح ثم تختفي سريعا ، و القطار يشق على سكته الحقول و القرى و الغابات
و بشكل فجائي تنبت قرية تشبه قريته . تذكر جلساته مع الشيخ صاحب دكان الدرب ، و تذكر حين سأله ذات مساء عن الفرق بين النساء
فضحك و قال لا فرق يا ولدي ، فحبات الكرز داخل العلب لا تتميز عن بعضها لونها أحمر أو داكن ، رطبة ، رائحتها واحدة ، مغرية
و هي أولا و أخيرا تصلح للإستهلاك ، أم أنك تريد أن تفاضل بين علب الكرز ؟؟. قال في نفسه ما هذا الهراء
فأنا لا تنطلي علي مثل هذه التشبيهات ، البنات أو النساء غير الكرز ، المرأة هبة من السماء من أجل استمرارية الحياة على هذه الأرض
فلولاها لما كان هذا الوجود كما نعيشه اليوم .
فجأة تسقط عبر النافذة قطرات دافئة فتقع على جفنه ،تحدق المرأة في عينيه و تهمس متسائلة هل يبكي هذا الرجل حقا ؟
" آه لولا نظري الضعيف لتبينت إن كان يبكي أم لا ".
تنهدت فخمنت أنها لم تعد شابة و العينان الغائرتان في تضاريس الوجه لا تسعفانها في تمييز الأشياء .
حدقت كثيرا في وجهه معتقدة أنه يبكي ، أما هو كان ينظر عبر النافذة محاولا الهرب من نظراتها ، و يود لو ينام قليلا ...
المرأة : يا للمسكين يبدو مهموما و متعبا
الرجل : عيناها جارحتان كرصاصتين و هي تخترق القلب
كان يوما باردا و غائما و القطار يخترق تباعا السهول و التلال و الجبال ، و داخل إحدى عرباته رجل و امرأة وجها لوجه
أطلت على أحراش ذهنه ذكرى قديمة من أيام الزمن الجميل ، أيام الثانوية و العلاقات المدرسية و النار الموقدة في حنايا الشباب و تذكر زهرة
تنهد الرجل و تململ ففتح عينيه ، عبر النافذة المقابلة رأى عصفورا مهاجرا الى الجنوب ، كان يفرد جناحيه و يصارع الرياح
فتذكر العش و التي سكنت الفؤاد ، و تذكر زهرة ، فتساءل لماذا كانت تريد أبناء و الأبناء يلزمهم الخبز
و الخبز يتطلب عملا و قبضة من حديد ؟فجأة سقطت غيمة رمادية فصارت سحابا كثيفا من الحزن ، و بدت العربة مظلمة .
انتبه الرجل فوجد القطار داخل نفق مظلم. كأن الظلام حط فجأة مثل قدر ثخين و جلل كل شيء
المحطات و الأشجار و الحقول و القرى الفقيرة و الأطفال و الحدائق .
لكن بقي شيء واحد وسط هذا الظلام مومضا و لامعا ، عينا المرأة ، صغيرتان و براقتان و متقدتان تحدقان به هذه المرة بتركيز كبير .
أصيب الرجل بالذعر ، انقبض قلبه بقوة و قال مع قرارة نفسه : سأخنق هذه المرأة إن لم تفارقني .
بشكل فجائي تنقشع الظلمة و يخرج القطار من ذاك النفق الموحش عوت الريح بشدة فترنح لها العصفور المهاجر
اتجهت اليه المرأة هذه المرة بقلبها و قالت : لا تودع و تدعني وحيدة مع هذا الرجل اللغز .
بدا جبل أمام القطار و هو يسد الطريق ، فقالت المرأة امقت دخول القطار في الأنفاق ، أخاف الأنفاق فهي توحي بالوحشة و الأحزان و العتمة
و كل الدلالات الموجعة ، و وحدي مع هذا الرجل الذي يبعث على الإنكسار و الرماد و يشيح بوجهه جانبا كلما نظرت اليه .
فخطر ببالها خاطر اندهشت له ، لعله مُهَرب أو هكذا يبدو ، حدقت في وجهه جيدا ، عيناه مغمضتان ، فأحس بلهب نظراتها و هو يلفح وجهه .
آه يا أيتها المرأة كفي عن ملاحقتي بنظراتك الماكرة و إلا سأخنقك لا محالة .
تسأله المرأة : أية محطة هذه سيدي ؟
الرجل : نحن على مشارف المحطة الأخيرة سيدتي
في كل محطة كان يتابع حركة الناس منهم النازل و منهم الطالع ، إلا تلك المرأة ظلت ثابتة أمامه و دون حراك يذكر
لعل رحيلها الى الجنوب يشبه رحيله . لأول مرة فكر أن يحدق في وجهها، نظر اتجاهها لم يجد لها أثر ، رحلت ، لا أثر لعينيها
لم يصدق لتوها كانت هنا معه وجها لوجه ، أي قدر أخذها بغتة ، كانت عيناها دافئتين و جذابتين .
تساءل الرجل هل فعلا فكر في خنقها ؟ ثم استطرد قائلا : آه كم أحببتها و هي أمامي
و لا يمكن أن تختفي و تتركني وحيدا في مواجهة آخر محطة لهذا القطار.
هب الرجل باحثا داخل العربات عن المرأة ، لا امرأة هناك و لا طائرا و لا زهرة كل شيء اختفى .
فبقي الرجل وحيدا في مواجهة غربته...