ضاق صدره من وطأة الغربة بالرغم
من أنها ليست المرة الأولى، فقد سبق
له وسافر للدراسة وعاش
بعيدا خمس سنوات مرت كالحلم.
لكن هذه الغربة القسرية وجدها مختلفة وقاسية ،تضغط على أنفاسه
بلا رحمة ولا شفقة وكأنه وسط أمواج متلاطمة بلا طوق نجاة.
صخب الحياة ومزاجية السكان في التعامل مع الغرباء ومحاولة إستغلالهم ماديا ،والنيل منهم معنويا
جعل الأيام والليالي تمر عليه
ثقيلة, رتيبة ,لازرع فيها ولاثمر ..
هكذا وجد نفسه وهو على أعتاب العقد الخامس من عمره
يجاهد مع إشراقة كل شمس
لتجديد إرادة وعزيمة التحدي وصنع الأمل بحياة جديدة كريمة له ولعائلته .
استثمر ماأدخره طوال سنوات غربته الاولى وعمله بعدها في مشاريع لم تخلو من مفاجأة هنا
وصدمة هناك ، الأمر الذي
زاد في احباطه
وقلقه من قادمات الأيام
زوجته كانت أوفر حظا
وأستطاعت بعد جهد جهيد أن تمارس عملها الأصلي في التدريس الأمر الذي منح العائلة فسحة إضافية
من الأمان والإستقرار
في أحد أيام العطل قصد البحر القريب من مسكنه للترويح عن نفسه وعائلته
وصلوا الشاطئ وكان عبارة
عن خليج صغير على شكل قوس
يلتقي به الجبل مع البحر في لوحة بديعة زادتها تلك المنارة القديمة
على سفح الجبل سحر وجمال..
جلس مع زوجته من بعيد يراقب صغيرته وهي تبحث بشغف وبلا كلل عن الأصداف والأحجار الملونة بينما أنهمك صغيره في نقل الرمال وتكديسها لبناء قلعته ومحاولات صد هجمات أخته المتكررة ومشاكستها له وغاراتها المفاجئة على الأسوار
وبعد أن إنتهى ..
وضع الصغير كلتا يديه على خصره
ونظر إلى صرحه بفرح وزهو متأملا
وفجأة تغيرت ملامح وجهه
ونادى أخته بصوت بائس :
-نسينا العلم يادبة
هل شاهدت يوما قلعة بلا علم..!؟؟
وألتفت إلى والده والحيرة بادية على وجهه وفي فمه
سؤال لم يجرؤ على النطق به؛؛
بعد أن شاهد والده ووالدته يتبادلان
نظرات غريبة لم تكن براءة طفل لتستوعب كل ما تحمله من معاني..
إستدركت زوجته الموقف
وبإبتسامة عريضة تدخلت فورا :
-ها قد أقترب الغروب لنتمشى صوب
المنارة ونحظى بهذا المنظر من هناك.
أنطلق الصغار فور سماع كلماتها بسرعة البرق يتواثبان على الشاطئ بخفة ورشاقة رغم ثقل الرمال.
أمسك بيد زوجته ووصلا
إلى أبعد نقطة من الممشى الخشبي
ووقفا يتأملان مشهد الغروب،
نظر في وجه زوجته خلسة وقد أضفى عليه الغروب بريقا آخاذا وكأن هالة من نور قد نسجتها أخر خيوط الشمس عليه بإتقان وقبل أن ينبس ببنت شفة بادرته :
ألا يذكرك هذا المشهد بشهر عسلنا..؟؟
أجاب مبتسما وكأنه كان جاهزا للسؤال:
-أجل الغائب الكبير
هو ذلك الطائر الفضولي
الذي أقتحم خلوتنا بلا سابق إنذار
راهنتك يومها أنه هدهد ولم تصدقي.
أجابت وعلى ثغرها إبتسامة
لم تخلو من خجل وبعض إرتباك:
-كانت المرة الأولى التي أرى فيها
هذا الطائر العجيب..
ليت الزمان يعود به وبنا؛
صمت لبرهة خالها دهر ومع تنهيدة عميقة ونظرة بعيدة
إلى خط الأفق اجابها :
-صحيح أن الوطن آنذاك كان من خلفنا لكن كان ملك لنا ..ظهر وسند، أما اليوم
فها هو أمامنا ويفصلنا عنه امتداد هذا اللون الإرجواني المحمر
على سطح المياه؛
لم يكن اللون بهذه الرهبة كما هو الأن..!!
بل كان رومانسيا يثير في النفس الراحة والأمان والإطمئنان
عاد الجميع إلى المنزل ،دخل غرفته ووضع نظارته الطبية ،أمسك القلم بعد طول جفاء وبدأ بالكتابة
أول السطر باق على العهد ..