من في القرية لا يعرف أبو زمعي ,,, سائق سيارة الأجرة الوحيدة التي تصل القرية بالمدينة
أبو زمعي رجل له من لقبه نصيب كما يقال ,,, فهو رجل قلبه طيب ... ولكنه سريع الغضب عصبي المزاج
حتى أنه عندما يغضب لا يستطيع أن يتحمل نظاراته السميكة التي يضعها على وجهه فيمسكها ويرميها
على الأرض ويكسرها ,,, أو يرميها في وجه من أغضبه ... حيث كان من نصيب وجه زوجته الكثير منها
وقد حطم الكثير من النظارات خلال مسيرة حياته ,,, ففي كل شهر يشتري تظاراتين أوثلاث نظارات ... حسب نسبة غضبه المتسارعة كنبضات قلبه في ذاك اليوم الصيفي الأعسر الذي مر عليه كمرارة الزقوم ,,
فهاهي الساعة قاربت العاشرة صباحا ولم يجتمع في السيارة إلا راكبان فقط والسيارة تتسع إلى أربعة أو خمسة ركاب في الحد الأعلى
فالمقعد الأمامي يتسع إلى راكبان بجانب أبو رمعي
والمقعد الخلفي يتسع إلى راكبان أو ثلاثة ركاب إذا تقاربوا وألصق كل واحد منهم ساقاه ببعضهما ,,,
وبين تململ وتزمر والساعة أصبحت العاشرة والنصف وبالعادة تكون السيارة قد وصلت كراج المدينة تنتظر ركاب العودة في ذاك الوقت
وفي تلك اللحظة يأتي أبو محمود وابنه محمود يلهثان ويهلهلان
ومن ثم يتمالك أبو محمود أنفاسه ويقول ... الحمد لله يا أبو زمعي أننا وجدناك لقد نسينا أن موعد تسليم البطاقة الشخصية لابني محمود اليوم في دائرة المدينة الحكومية ,,, وعلينا إحضارها ضروي جدا,,,
يهز أبو زمعي رأسه موافقا بعد أمتعاض ويقول في نفسه
لو أنك تذكرت منذ الصباح لكنا الأن في المدينة
يركب الجميع السيارة ويهم أبو زمعي بوضع المفتاح لتشغيل السيارة
فيسمع صوت من الخارج ينادي أنتظر يا سيد ...
يلتفت الجميع إلى مصدر الصوت
فيفاجئهم رجل أنيق متأنق ببدلة كحلية اللون لم تمسها غبرة الصباح وقميص أبيض وربطة عنق زهرية اللون
بصوته الخشن قائلا :
هذه سيارة المدينة ؟؟؟
فيجيب الجميع بأيمائة بالموافقة ومن ثم يلتصق أبو محمود وابنه ببعضهم في المقعد الخلفي ليتركوا مكانا لذاك الرجل الذي فاحت منه رائحة عطر فاخرة
ولكن أبو زمعي لم يكترث بل تمتم مطبقا شفاهه قائلا :
(( أهلا بزبون العوافي ))
وهي عبارة تقال بين أصحاب المحلات دلالة على أن البائع لم يعجبه زبونه
وأخيرا وفي هذا اليوم الشديد الحرارة انطلقت السيارة متجهة إلى المدينة
وما هي إلا دقائق حتى بدء العرق يتصبب من الركاب أجمعهم وأكثرهم الرجل الانيق
فبدأ يحل ربطة عنقه ويفتح زر قميصه ومن ثم خرج عن صمته قائلا :
هل تسمح يا سيد أن تشغل مكيف التبريد ....
في تلك اللحظة يضع أبو زمعي قدمه على الفرامل فتقف السيارة في منتصف الطريق مخلفة صوتا ودخانا أسودا
ومن ثم يرمي نظاراته أمامه على المقود ويلتفت إلى الرجل الانيق
صارخا في وجهه قائلا :
ماذا تريد يا زبون العوافي ؟؟؟
يبدو أنك لا تفهم ... السيارة موديل التسعينات ... ما فيها مكيف ... وتركيب المكيف يكلف الكثير ...
هل تعتقد أنك تركب سفينة ((التكتك )) او طائرة (( البنغ )) وهو يقصد سفينة التيتنك المشهورة وطائرة البوينغ .. ولكن ثقافة أبو زمعي ضحلة قليلا.... سامحوه ...
هنا يتدخل أبو محمود قائلا ... يا أبو زمعي اترك الأستاذ بحاله ... يبدو أن الأستاذ للمرة الأولى يركب سيارة أجرة
فيجيب الرجل : نعم بالفعل ..البارحة كنت في زيارة لأحد الأصدقاء في قريتكم وتعطلت سياراتي
لذلك اضطررت لركوب سيارة الأجرة الخاصة بقريتكم ,,,
فيجيب أبو محمود : الحق معك يا أستاذ ’,’’’ يأ أبو زمعي أرجوك خلصنا ,,, الدوائر الحكومية ستغلق أبوابها .. ارجوك ان تسرع ...
فيهدأ أبو زمعي ويدير المفتاح ويتكل على الله
وبعد تعرجات قليلة في طريق القرية بين أشجارها وحقولها ورائحة خضرتها وترابها وبين تلك البساتين الجنان
يقف رجل عجوز يشير بعصاه القرمزية لأي سيارة عابرة طريقها إلى المدينة وما أن رأه أبو زمعي
حتى أوقف السيارة بجانبه قائلا
إلى أين يا عم ؟؟؟
فرد عليه العجوز : إلى المدينة
فأشار إليه بالصعود في المقعد الخلفي
ومن ثم قال :
((دبروا حالكم)) رجل بعمر والدكم أو جدكم ,,, حرام أن يقف أكثر في عين الشمس
هنا يقفز الرجل الأنيق بصوته مقاطعا
ولكن المكان لا يتسع والدنية نار ...
وما أن أنهى الرجل كلامه حتى أحمر وجه أبو زمعي غضبا فأراد أن يرمي نظاراته فتذكر في لحظة أنه منذ قليل رماها على المقود وبدأت تتضعضع وهي في طريقها للكسر فأعرض عن رمي النظارات ووصلت يده إلى مطرقة يضعها تحت الكرسي الخاص به فالتفت إلى الرجل الانيق ورفع المطرقة موجهها نحو رأس الرجل قائلا
ماذا أمرت يا زبون العوافي ؟؟؟
قلنا لك أن رجل بعمر والدك ... كلها ساعة زمن ونصل المدينة ... يخطر في بالي أن أطرق رأسك في المطرقة لتصل إلى قبرك الان
هنا يقفز الركاب أجمعهم ويفضون النزاع وتعود السيارة تسير في طريقها إلى المدينة مع تذمر سائقها بكل نفثة دخان ينفثها من فمه المبربر ... قائلا .. الله يخلصنا من زبون العوافي
وتكمل السيارة طريقها بين الغابات ... فتهبط واد وتصعد جبل وبين تعرجات تلك الطريق الوعرة تقف امرأة ريفية تحمل طفلها الوليد على حافة الطريق تشير لكل سيارة عابرة
ولا أحد يقف لها ... فيشاهدها صاحب القلب الطيب الرؤوف الحنون أبو زمعي ويقف السيارة أمامها سائلا أياها
إلى أين يا حجة ....؟؟
فتقول بصوت ملتهف متقطع ...
ابني مرضان ودكتور القرية حولني إلى مستشفى المدينة
هنا تدب النخوة في رأس أبو زمعي ويشير لها بالصعود في المقعد الخلفي مسرعا
كما دبت المفاجأة والصاعقة على وجه الرجل الأنيق فيصرخ قائلا
ولكن لا يوجد مكان لذبابة في المكان الخلفي ,,, والله انعصرنا ..
طبعا ينفجر أبو زمعي في رأسه الدم ويغلي كالمرجل فيضع يده على نظاراته ولكنه يتذكر أن لا مجال لكسرها في الوقت الحالي فهو لا يملك ثمن نظارات جديدة ,,, فيعود للحل الثاني ويخرج المطرقة من تحت الكرسي ويرفعها في وجه الرجل مجددا قائلا :
يبدو أنك لن تصمت يا زبون العوافي حتى أطرق رأسك بمطرقتي هذه
هذا عمل إنساني ... الطفل مريض ولازم يدخل المستشفى ,,, اذا لم يعجبك أنزل من السيارة وأكمل الطريق مشيا على الاقدام
وهنا ومثل العادة يتدخل الركاب ويفضون النزاع ,,, ويهدأ أبو زمعي ’’’ ويعود للقيادة السيارة بسرعة جنونية
لتصل أخيرا السيارة إلى كراج المدينة بعد أن أصبح ركابها مثل المخلل المكبوس في مرطبانه
وليخرج أبو زمعي من سيارته متفقد عجلاتها فيجد أن أحد العجلات قد خرج الهواء منه وبحاجة لتصليح
فيقف بجانب سيارته ويخرج لفافة تبغ ويبدأ بسحب دخانها ويقول في نفسه
ما هذا النهار المعكر ...العجلة الان وقبلها زبون العوافي ,,,,
وما هي إلا ساعة ... حتى يسمع صوت دوي سيارات النجدة والشرطة في كافة أرجاء الكراج
ومن ثم نزول رجالها من السيارة مسرعين بعد تجمهر المارة ليشاهدوا أعتقال أبو زمعي وسحبه إلى سيارة الشرطة
ومن ثم أخذه إلى فرع الأمن في المدينة وسط دهشته وعدم معرفة سبب اعتقاله المفاجئ
ولكنه عندما وصل إلى باب مكتب في فرع الأمن مكتوب علي شاخصته ((قاضي التحقيق الأول ))
ودخل إلى المكتب ووجد رجلا يجلس على كرسي فخم خلف المكتب ببدلته الكحلية اللون وقميصه الأبيض وربطة عنقه الزهرية اللون ... ويحمل في يده مطرقة خشبية وينتظر مجيئه ...وفي عيون ذاك الرجل تلمع نظرات الحدة والانتقام
زالت عن أبو زمعي علامات الأندهاش تلك وعرف ما هو ذنبه وما أقترفت يداه ... فطأطأ رأسه ووضع عيناه في الأرض ... وقال في صوت منخفض :
قبل ساعة كانت المطرقة في يدي والأن أصبحت المطرقة في يدك ياسيدي ,,,,
فرد عليه القاضي بصوته الخشن قائلا :
((أهلا بزبون العوافي))