لَقَدْ أَتَمَ الاثْنَي وَ خَمْسِينَ عَامْاً هَذَهِ السَنَةً، يَعِيشُ حَيَاةً مُسْتَقِرَةً مَعَ زَوجَتِهِ وَ عِيَالِهِ ، رُغْمَ أَنَهَا لَا تَخْلُو مِنْ مُشَاكِلِهِم الَّتِي تُضْفِي نَكْهَتَهَا عَلَّى حَيَاتِهِ .
يَأَخُذُ جَولَتَهُ المُعْتَادَةَ عَلَّى اَبْنَاءِهِ وَاحِدَاً تِلوَ الآخَر ، يَلِجُ غُرْفَةَ مَحْبُوبَتِهِ الصَغِيرَةَ أَمَل مَعَ شَقِيقَتِهَا الأَكْبَرُ سِنَاً مَدَارْ ، تَبَسَمَ لَهُمَا فَقَفَزَتْ أَمَلٌ مِنْ عَلَّى سَرِيرِهَا تَرْكُضُ
نَاحِيَتِهِ لِتُعَانِقَهُ ضَاحِكَة : أَبِي !
ثُمَ تُحَيِهِ بَينَمَا تَحُثُهُ عَلَّى الدُخُولِ : تَفَضَّلَ " حَيَاكَ الله " تَفَضَّل بِالجُلُوسْ !
يَجْلِسُ عَلَّى سَرِيرِهَا بِبُطْء خَوْفَاً مِنْ أَنْ لَا يَتَحَمَلَ وَزْنَهُ البَالِغَ خَمْسَ وَ سَبْعُونَ جرَامَاً ، ثُمَ يَلْتَفِتْ نَاحِيَتَهُمَا بَينَمَا تَتَرُكُ مَدَارْ حَاسِبَهَا المَحْمُولَ جَانِبَاً لِتُصْغِ إِلَّيهِ : مَاذَا
تَصْنَعْنَ ؟
حَرَكَتْ مَدَارْ كَتِفَيهَا بِلَا مُبَالَاة : كالعَادَةِ ، أَتَصَفَحُ المُنْتَدَى ، وَ أَكْتُبُ قِصَةً ، أَقْرَأُ المَانْجَا ، وَ أُشَاهِدُ الرُسُومَ المُتَحَرِكَة !
التَفَتَ إِلَّى أَمَلْ الَّتِي أَجَابَتْهُ بِتَرَدُدٍ : الدرَامَا ، وَ أَخْبَارُ المَشَاهِير ، بِبَسَاطَةٍ كُورِي !
حَاوَلَتْ إِضْفَاءَ جَوٍ مِنَ المَرَحِ بِأَنْ أَرْدَفَتْ : تَعْرِفُنِي أُحِبُ الدرَامَا وَ البَرَامِجَ الكُورِية ، وَ أُرِيدُ أَنْ أَبْتَعِثَ لِهُنَاكْ !
تَنَهَدَ بِقَلَقْ وَ جَمِيعُهُمْ يَعْلَمُ بِأَنَ أَمْرَ إِبْتِعَاثِهَا هُوَ مُجَرْدُ حُلُمٍ مِنْ أَحْلَامِهَا الَّذِي كَانَ أَصْلَاً بِسَبَبِ عَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَّى تَحَمُلِ أَعْبَاءِ السَفَرْ : مَاذَا عَنْ المُحَاضَرَاتْ ؟ أَلَمْ
تَسْتَمِعِي إِلَيهَا ؟
تَجَمَدَتْ بَعْضَ الشَيِءِ فِي حِينْ تُجِيبُهُ أَمَلْ : نَسْتَمِعُ ، لَكِنْ بَيَنَ الحِينِ وَ الآخَر !
نَظَرَ إِلَيْهَا بِابْتِسَامَةٍ صَغِيْرَةٍ : مَاذَا عَنِ اليَوم ؟
ضَحِكَتْ أَمَلْ فِي حِينْ تُخَبِئُ وَجْهَهَا فِي حِضْنِهِ خَجَلَاً : لَمْ نَفعَل !
رَفَعَ حَاجِبَهُ الأَيمَنَ مُسْتَنكِرَاً وَ قَالَ بِمُبَاغَتَةٍ : وَ فِي الأَمْسِ ؟
صَمَتَتْ أَمَلْ فَحَوَلَ نَظَرَاتِهِ عَلَّى مَدَارْ الَّتِي اَنْكَسَتْ وَجْهَهَا لِلأَرْضِ دَلَالَةً عَلَّى أَنْهَا لَمْ تَفْعَل ، فَقَالَ بِهُدُوءٍ وَ وِقَارْ : يَا " بنياتي " صَدقْنَنِي أَنْ هَذِهِ " الخربطة " لَنْ تَنْفَعَكُنَ ، فَمَا أَنْتُنَ فَاعِلَاتٌ أَمَامَ اللهِ لَوْ مَا مُتُنَ اليَوْمَ أَوْ غَدَاً - أَطَالَ اللهُ فِي أَعْمَارِكُنْ - أَعِنْدَمَا تُسْأَلْنَ عَنْ عَمَلِكُنَ هُنَاكَ سَيَنْفَعُكُنَ هَذَا جَوَابَا ؟ وَ مَاذَا اِسْتَفَدْتُنَ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاء ؟
صَمَتَ لِبَعْضِ الوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ : قَطْعَاً لَا شَيءْ سِوَى ضَيَاعٍ لَلوَقْتِ وَ العِبَادَة !
أَرْدَفَ بَعْدَ بُرْهَةٍ : حَاوِلْنَ أَنْ تَسْتَمِعْنَ إِلَّى مُحَاضَرَةٍ فِي دِيِنِكُنَ وَ أَنْ تَقْرَأْنَ القُرْآنَ لِيَنْفَعَكُنَ يَوْمَ القِيَامَةِ ! عَلَّى الأَقْلِ نِصْفُ سَاعَةٍ فِي اليَوْمِ وَ لِيَكُنْ مَا تَبَقَى هُوَ تِلْكَ " الخربطة " الكوري وَ " المدري وشو " وَ القِصَصَ ، الرُوَايَاتْ ! صَدِقْنَنِي سَاعَةٌ مِنْ الوَقْتِ لَنْ تَضُرَنَكُنَ ، لَا أَيْضَاً لِنَقُلْ رُبُعُ سَاعَةٍ كَافِيَةٍ ! فَقَطْ لَا تُضِعْنَ يَوْمَكُنَ كَامِلَاً عَلَّى هَذِهِ الأَشْيَاءِ ، إِفْعَلْنَ شَيْئَاً تُؤْجَرْنَ عَلَّيِهِ ، عَلَّى سَبِيِلِ المِثَالِ سَاعِدْنَ وَالِدَتَكُنَ فِي تَرْتِيبِ البَيْتِ ، فَهِيَ قَدْ كَبُرَتْ فِي السِنِ ، وَ لَمْ تَعُدْ كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا كُنْتُنَ صِغَارَاً ، أَدْخِلْنَ البَهْجَةَ عَلَّى قَلْبِهَا فَهَذَا أَنْفَعُ لَكُنَ مِنْ كُلِ هَذَا ! لَا يَجِبُ أَنْ تُسَاعِدْنَهَا طَوَالَ اليَوْمِ ، كَلَا ، لَيسَ هَذَا المَقْصُودْ ، لَكِنْ إَنْ كُنْتُنَ تَسْتَطِعْنَ مُسَاعَدَتَهَا ثَلَاثُونَ بِالمِئَةِ ، عِشْرُونَ ، خَمْسَةٌ بِالمَائَةِ كُلُ ذَلِكَ جَيِدٌ كِفَايَةٌ .
صَمَتَتْ الفَتَاتَانِ لِتَقُولَ مَدَارْ بِتَرَدُدٍ : " أوكي " .
فِي حِينِ ظَلَتْ أَمَلْ تُرَاقِبُ التَجَاعِيدَ الَّتِي بَدَأَتْ فِي الظُهُورِ أَسْفَلَ عَينَيهِ بِتَأَمُلٍ وَ فِكْرٍ فَارِغ .
رَبَتَ عَلَّى رَأْسِ أَمَلْ مُبْتَسِمَاً ، فَرُغْمَ أَنْهُ يُعِيدُ ذَاتَ الكَلِمَاتِ عَلَّيهُنَ فِي كُلِ مَرَةٍ إِلَّا أَنْهُنَ يُصْغِينَ إِلَّيهِ بِذَاتِ الاهْتِمَام ، وَ رُغْمَ أَنْ لَا تَغْييرَ كَبِيرٌ يَطْرَأُ عَلَّيهِنَ إِلَا أَنْهُ يَجِدُ
بَعْضَ الثِمَار ! وَ كَمْ يَتَمَنَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَفِيلٌ بِإِصْلَاحِ حَالِهِنْ فَهُنَ كَمَا يُقَالْ يَعِشْنَ فِي " فَوضَى مُرَتَبَة " !
نَهَضَ مُرَدِدَاً " الله يرضى عليكم " فِي حِينِ يُغَادِرُ الغُرْفَةَ مُبْتَسِمَاً لِيُغْلِقَ البَابَ وَ يُطْلِقَ تَنْهِيدَتَهُ القَلِقَة بَينَمَا يَنْتَقِلُ إِلَّى غُرْفَةِ الصِبْيَةِ لِيَجِدَهُمْ يَلْعَبُونَ العَابَ الفِيدِيو بِصَوْتٍ مُرْتَفِعْ وَ عُيُونُهُم مُرَكَزَةٌ عَلَّى الشَاشةِ لِيَقُوْلَ أَحَدُهُمْ بِحَمَاسٍ وَ شَهْقَةٌ ظَهَرَتْ مِنْ حَلْقِهِ إِثْرَه : هَدِيرْ لَا تَجْعَلْهُ يَلْحَقُ بِكْ !
لِيَرُدَ عَلَّيهِ الآخَرُ بِصُرَاخٍ : " خذ أمسك الجهاز أنا أخاف ! "
لَمِحَا وَالِدَهُمَا فَأَوْقَفَا اللِعْبَةَ بِزِرِ التَوَقُفِ لِيَقُوْلَا مُبْتَسِمَينْ : " هلا و الله تو ما نورت الحجرة " !
ظَلَ وَاقِفَاً بَينَمَا يَقُوُلُ بِعِتَاب : فِي كُلِ مَرَةٍ أَمُرُ عَلَّيكُمْ أَجِدُكُمْ تَلْعَبُونَ بِهَذِهِ الأَلْعَابْ ! أُرِيدُ فَقَطْ أَنْ أَرَاكُمْ مَرَةً وَاحِدَةً تَقْرَؤونَ القُرْآنَ أَوْ تَسْتَمِعُونَ لِمُحَاضَرَةٍ دُونَ الحَاجَةِ لِإِخْبَارِكُمْ بِذَلِكْ .
بَقِيَا مُبْتَسِمَيْنِ فِي حِينِ أَنْ هَدِيرْ يُدَلِكُ شِمَالَهُ بِتَوَتُرٍ وَ شَقِيقُهُ الأَكْبَرُ سِنَاً فَاضِلْ يَنْظُرُ لِلأَرْضِ بِخَجَلَ وَ يَعُضُ عَلَّى شَفَتِهِ لَوْمَاً لِنَفْسِهِ .
حِينَهَا قَالَ الأَبُ بِلُطْف : أَنَا أَسْعَى لِمَصْلَحَتِكُمْ ، وَ إِلَا لَتَرَكْتُكُمْ لِتَفْعَلُوا مَا شِئْتُمُ حَتَّى وَ إِنْ ضَلَلْتُم عَنْ الطَرِيقِ السَلِيْم ، وَ لَمَا أَخْبَرتُكُمْ شَيئَاً .
تَنَهَدَ بِتَعَبْ عِنْدَمَا قَالَ بِأَمْر : اَخْفِضُوا الصَوْتَ لِأَلَا تُصَابُوا بِالصَمَمِ .
تَنَاوَلَ فَاضِلٌ الجِهَازَ لِيُنْقِصَ مِنْ مُسْتَوَى الصَوتْ . بَينَمَا يَقُوُلُ لِوَالِدِهِ مُبْتَسِمَاً : أَتُرِيدُ أَنْ نَلْعَبَهَا لَكُمْ ؟ اللُعْبَةُ مُمْتِعَةٌ وَ مُشَوِقَة !
تَبَسَمَ الأَبُ وَ رَفَضَ بِلُطْف . عِنْدَهَا عَادَ الصَبِيَيْنِ لِإِكْمَالِ لِعْبَتِهِمَا فِي حِينِ يُغْلِقُ وَالِدَهُمَا البَابَ لِيَهْبِطَ السَلَالِمَ لِلطَابَقِ السُفْلِي - وَ الَّتِي كَانَتْ قَرِيْبَةٌ مِنْ غُرْفَةِ الصِبْيَة - .
أَشْعَلَ الأَضْوَاءَ فِي مَنْطِقَةِ السَلَالِمِ العُلْيَا إِذْ كَانَتْ مُطْفَآَةٌ ، فِي حِينِ أَنْ السُفْلَى مُضِيئَة . فَتَحَ البَابَ الَّذِي يَعْزِلُ السَلَالِمَ عَنْ صَالَةِ المَنْزِلِ وَ الَّتِي تُسْتَخْدَم كَغُرْفَةٍ لِلجُلُوسِ أَوْ حَتَى غُرْفَةٍ لِلطَعَام ! حَيْثُ فِيهَا يَقْضِي مُعْظَمَ يَوْمِهِ ، لَمَحَ أِبْنَهُ الأَكْبَرَ مُسْتَلقِيَاً عَلَّى الأَرِيكَةِ يَغُطُ فِي النَوم وَ سَمَاعَاتُ الهَاتِفِ عَلَّى أُذُنِه فَمَضَى نَحْوَهُ لِيُزِيلَهَا
بِهُدُوءٍ ثُمَ أَحْضَرَ بَطَانِيَةً مِنْ غُرْفَةِ المَخْزِنِ الصَغْيرَة - وَ الَّتِي إِحْتَلَ بَابُهَا إِحْدَى جُدْرَانِ زَاوِيَةِ الصَالَة - لِيُغَطِيهُ بِهِ بِعِنَايَة ، فِي حِينْ يُحَوِلُ نَظَرَهُ نَحْوَى زَوْجَتِهِ الَّتي تَرْقُدُ عَلَّى الأَرْضِ بِجَانِبِ صَغِيرَتِهَا وَ قَدْ غَطَتْ نَفْسَهَا بِفَرْشِ السَرِير - الغَيْرِ مُستَخْدَم - . تَنَهَدَ بِتَعَبٍ ، لَابُدَ أَنَهَا لَمْ تَنَلَ قِسْطَهَا مِنْ الرَاحَةِ مُجَدَدَاً ، كُلُ ذَلِكَ بِسَبَبِ
اِبْنَتِهِ زَهْرَاء البَالِغَةِ مِنْ العُمْرِ سَنَتَيِن . عَدَلَ غِطَاءَهُمَا ، ثُمَ انْصَرَفَ نَحْوَ غُرْفَةِ المَكْتَبِ الخَاصَةِ بِه .
فَتَحَ البَابَ يَجُوبُ بِنَظَرِهِ عَلَّى المَكَان ، سَرِيرُهُ الَّذِي رَكَبَهُ مُؤَخَرَاً فِي الزَاوِيَة ، مُعَدَاتُ المَنْزِلِ فِي الزَاوِيَةِ المُقَابِلَة ، وَ عَلَّى يَمِينِهَا مَكْتَبُهُ الَّذِي اِحْتَلَ رُبُعَ الجِدَار وَ بِجَانِبِهِ حَاسِبُهُ الشَخْصِي ! رُفُوفُ كُتُبِهِ عَلَّى الجِدَارِ الأَيْمَنْ ، وَ بَعْضِ الصَنَادِيقِ بِقُرْبِهَا ، وَ أَمَامَهَا حَيْثُ يَفْرِشُ سَجَادَةْ الصْلَاةِ وَ بِقُرْبِهَا القُرْآن إِذْ يَتَنَاوَلُهُ لِيَقْرَأَ شَيْئَاً
مِنْهُ بَعْدَ كُلِ فَرِيْضَة .
يَتَذَكْرُ كَيْفَ كَانَ المَكَانُ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ غُرْفَةَ مَكْتَب ، فَهَذِهِ الغُرْفَةُ ذَاتَ الطِلَاءِ المُتَشَقِقِ كَانَتْ قَبْلَ خَمْسِ سَنَوَاتٍ غُرْفَةٌ لِعِيَالِهِ جَمِيعَاً ذُكُورَاً وَ إِنَاثَاً . كَانَتْ الدْيُونْ تَتَرَاكَمْ عَلَّى ظَهْرِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِنْهَاءَ المَنْزِل وَ بِالتَالِي لَمْ تَتَوَاجَدْ إِلَّا غُرْفَتَينْ وَ الثَالِثَة كَانَتْ غُرْفَةُ المَخْزِنِ الَّتِي إِسْتَعْمَلَتْهَا اِبْنَتُهُ البِكْر قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَج !
نَفَضَ الذِكْرَيَاتِ مِنْ اَفْكَارِه فِي حِينِ يُرَدِدُ : الحَمْدُ لله .
وَضَعَ حَافِظَةَ نُقُودِهِ وَ مَفَاتِيحَهُ عَلَّى مَكْتَبِه وَ غَادَرَ الغُرْفَةَ مُتَوَجِهَاً نَحْوَ المَطْبَخِ الصَغِيرِ وَ الَّذِي كَانَتْ خَزَائِنُهُ تَصْرُخُ بِمُعَانَاتِهَا ، كَيْفَ لَا وَ قَدْ مَرَتْ عَلَّيِهَا عَشْرُ سَنَوَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مُذْ وُضِعَتْ ؟
اَلْقَى نَظْرَةً عَلَّى أَكْيَاسِ الخُبْزِ المَوضُوعَةُ بِإِهْمَالٍ عَلَّى زَاوِيَةِ إِحْدَى الخِزَانَاتْ فِي حِينِ يَنْظُرُ بِاِسْتِنْكَارٍ نَحْوَى كِيسِ خُبْزٍ مَلْقِي عَلَّى الأَرْض - وَ إِنْ كَانَ غَفْلَةً مِمَنْ وَضَعْه - لِيَلْتَقِطَهُ مِنْ عَلَّى الأَرْضِ ، كَانَتْ فِيهِ نِصْفُ خُبْزَة ، لَكِنْ قَدْ طَغَى عَلَّيهَا العَفَنْ ! يَبْدُو بِأَنَهُ كِيسُ الخُبْزِ الَّذِي اِشْتَرَاهُ قَبْلَ خَمْسِ أَيَام !
دَلَكَ جَبِينَهُ بِعَصَبِيَةٍ مُتَمَالِكَاً نَفْسَه ، فِإِنْ كَانَ سَمِحَ الخُلُقْ إِلَا أَنْ لَدِيهِ هَذِهِ العَادَةُ السَيِئَة ، رُغْمَ كُلِ مُحَاوَلَاتِهِ مَا زَالَ لَا يُسَيْطِرُ عَلَّى إِنْفِعَالَاتِه .
مَنْظَرُ الخُبْزِ ذَاكْ قَدْ ذَكَرَهُ بِأَيَامِ الشَقَاءْ الَّتِي مَرَتْ عَلَّيِه ....
لَمْ يُوَفَقْ لِلَحَاقِ بِالجَامِعْة كَمَا أَشِقَاؤُه رُغْمَ أَنْهُ كَانَ مُتَمَيِزَاً فِي الثَانَوِية ! عَمَلَ فِي جَمْعِيةٍ خَيْرِيَة وَ تَزَوَجَ اِبْنَتَ خَالَتِهِ الأَصْغَرِ مِنْهُ بِسِتِ سَنَوَاتْ ، لَمْ يَمْلِك مَنْزِلَاً فَعَاشَ مَعَ أَخِيه فِي مَنْزِلِه ، إِلَّا أَنْهُ لَمَحَ الضِيقَ عَلَّيه لِذَا قَرَرَ السْكَنَ فِي شُقْةٍ خَارِجَاً ، لَمْ يَكُنْ قَادِرَاً عَلَّى العَيْشِ مَعَ وَالِدَيهِ إِذْ أَنَ مَنْزِلَهُمْ غَيْرُ قَابِلٍ لِإِسْتِقْبَالِ فَرْدٍ جَدِيدْ ! وَجَدَ لَهُ وَاحِدَةٌ بِصُعُوبَة وَ اَنْجَبَتْ زَوْجَتُهُ اِبْنَتَهُ البِكْر ، لَمْ يَعُد مَصْرُوفُه كَافٍ لِتَغْطِيَةِ احْتِيَاجَاتِه فَأَصْبَحَ مُضْطَرَاً لِلإِدِخَارْ وَ الكَثِيرِ مِنْ الإِدِخَارْ ! فَمَصْرُوفُ الشِقَة تَطَلَبَ مِنْهُ نِصْفَ مَرْتَبِه - وَ الَّذِي أَصْلَاً كَانَ مِنْ تَبَرُعَاتِ المُتَبَرِعِينْ - وَ كَانَ عَلَّيهِ النَفَقَةُ عَلَّى زَوجَتِهِ وَ ابْنَتِهِ الصَغِيرَة وَ الَّتِي كَانَ مُضْطَرَاً لِإِلْبَاسِهَا مِنْ الثِيَابِ المُسْتَعْمَلَة عُقَيْبَ بَنَاتِ أَخِيهِ ، وَ كَذَلِكَ هُوَ وَ زَوجَتِه ، فَقَدْ كَانَ النِصْفُ الآخَرْ يَذْهَبُ جُزْءٌ مِنْهُ إِدِخَارَاً لِمَصَارِيفِ السَيَارَةِ وَ الآخَرْ لِشَيءٍ يُطْعِمُهُمْ فِيهِ وَ الَّذِي كَانَ غَالِبَاً عِبَارَةٌ عَنْ رَغِيْفِ خُبْزٍ أَوْ بَعْضِ السَنْدَوِيش !
يَتَذَكْرُ كَيْفَ سَاءَةِ الأُمُور عِنْدَمَا انْجَبَتْ لَهُ زَوجَتُهُ ثَلَاثَةَ أَطْفَالٍ آخْرِينْ ، إِذْ كَانُوا يَبَاتُونَ أَيَاماً بِلَا طَعَامٍ أَوْ شَرَابْ ! وَ كَانَ مَصْدَرُ غِذَاؤهُم الوَحِيدْ هُوَ رَغِيفُ الخُبْزِ الَّذِي يَشْتَرِيهِ مِنْ مَحَلٍ عَلَّى قَارِعَةِ الطَرِيق يَسُدُ فِيهِ جُوعَهُم .
رُبَمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ هُوَ يُقَدِسُ كَثِيرَاً الخُبْزَ وَ يَكْرَهُ أَنْ يَجِدَ شَيئَاً مِنْهُ مُهْمَلَاً بِهَذَا الشَكل !
مُعَانَاتُهُ فِي المَاضِي لِتَوفِيرِ بَعْضِ الخُبْز - وَ الَّذِي صَارَ يَحْصُلُ عَلَّيهِ بِسُهُولَةٍ - مَا زَالَتْ رَاسِخَةٌ فِي ذَاكِرَتِه !
سَنَوَاتٌ مِن العَذَابِ كَانَ طَعَامُهُ الوَحِيدُ فِيهَا رَغِيفَاً مِنْ الخُبْز !
تَبَسَمَ بِسُخْرِيَة بَيْنَمَا يُفَكِرُ كَيْفَ كَانَ رَغِيفٌ وَاحِدٌ يَكْفِي لِسَدِ جُوعِ اَرْبَعَةٍ مِنْ عِيَالِه فِي حِيْنِ أَنْهُ يَتَقَاسَمُ وَاحِدَاً آخَرَ مَعَ زَوجَتِه بَيْنَمَا مَا تَبَقَى يَظَلُ لِلوَجْبَةِ التَالِية ! أَمَا الآن فَقَدْ بَاتَ الرَغِيفُ أَصْغَرَ حَجْمَاً وَ أَقَلَ سُمْكَاً وَ بِالكَادِ يَكْفِي رَغِيفَينِ لِسَدِ جُوعِ وَاحِدٍ فَقَطْ مِنْهُم !
أَطَلَتْ أَمَلْ عَلَّى وَالِدِهَا الوَاقِفِ فِي المَطْبَخِ لِتَقُولَ لَهُ بِابْتِسَامَة : مَا الأَمْرُ يَا أَبِي ؟
التَفَ نَاحِيَتَهَا قَائِلَاً بِعِتَابْ مُشِيرَاً عَلَّى الكِيسِ بِيَدِه : لِمَاذَا تَرَكْتُمُوهَا حَتَّى تَلُفَتْ ؟
حَكتْ رَأْسَهَا ضَاحِكَةً : لَمْ نَنْتَبِه لَهَا ، وَ إِنْ فَعَلْنَا رُبَمَا لَمْ نَكُن جَائِعِينَ لِنَتَنَاوَلَهَا !
تَنَهَدَ بِحَسْرَة : عِنْدَمَا تَكُونُ هُنَالِكَ وَاحِدَة فَلَا تَفْتَحُوا الجَدِيدَ حَتَّى تُنْهُوا القَدِيمَ أَوَلَاً وَ إِلَا سَيَتَكَرَرُ هَذَا كَثِيرَاً !
مَطَتْ شَفَتَيِهَا بَيْنَمَا تُحَرِكُ قَدَمَهَا بِحَرَكَةٍ دَائِرِيَة : أَنَا أَجِدُهُ كُلَهُ مَفْتُوحَاً فَآخُذُ مِمَا يُعْجِبُنِي .
عَمَسَ عَينَيهِ بِأصَابِعِ يَدِهِ اليُسْرَى : كَانَ بِإِمْكَانِكُمْ تَخْزِينَ جُزْءٍ مِنْهُ فِي المُجَمِدِ وَ إِنْ اِحْتَجْتُمُوهُ سَخَنْتُمُوه ، فَلِمَا هَذَا الإِسْرَافْ ؟
أَرْدَفَ بِهُدُوء : هَذِهِ نِعْمَةٌ يَجِبُ أَنْ نُحَافِظَ عَلَّيِهَا ! مِنْ المُؤسِفِ أَنْ يَؤُولَ بِهَا الأَمْرُ إِلَّى هَذَا الحَالْ .
أَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا مُوَافِقْة : مَعَكَ حَقْ . سَأُنَبِهُ إخْوَتِي عَلَّى ذَلِكْ .
أَمَلْ لَيْسَتْ مِمَنْ قَاسَى أَصْعَبُ الأَحْوَالْ ، لَكِنَهَا أَيْضَاً مِمَنْ وُلِدَ فِي وَضْعٍ صَعْب ، فَرُغْمَ أَنَهُمْ كَانُوا غَيْرِ قَادِرِينَ عَلَّى شِرَاءِ الأَرُز إِلَّا مَا نَدَر إِلَّا أَنَهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَّى تَنَاولِ شَيِءٍ مَتَّى أَرَادُ إِذْ أَنَهُمْ - بِنِعْمَةٍ مِنْ الله - استَطَاعُوا شِرَاءَ الأَجْبَانْ وَ الحَلِيبِ بِالإِضَافَةِ إِلَّى الخُبْزِ وَ السَنْدَوِيش !
فِي كُلِ مَرَةٍ يَنْظُرُ مِنْ حَوْلِهِ يَحْمَدُ الله أَلْفَ مَرَة ! فَهُمْ لَمْ يَعُودُوا مِنْ الفُقَرَاء ، بَلْ مِنْ مُتَوَسِطِي الحَال ، فَكُلُ مَا يَتَطَلَبُهُ مِنْهُمْ الحُصُولُ عَلَّى جِهَازٍ جَدِيدْ هُوَ الادِخَارْ بِصَبْرٍ لِبِضْعَةِ شُهُور ، رُبَمَا يَطُولُ ذَلِكَ لِعِدَةِ سَنَوَات ، لَكِنْ مَازَالُوا قَادِرِينَ عَلَّى الحُصُولِ عَلَّى أَشْيَاءَ لَمْ يَتَخَيَلْ امْتِلَاكَهَا فِي تِلْكَ الفَتْرَة .
قَطَعَتْ مَدَارْ أَفْكَارَهُ بَعْدَ أَنْ اَطَلَتْ مِنْ خَلْفِ أَمَلْ : أَتُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ شَيئَاً لِتَأَكُلَه ؟
تَبَسَمَ وَ قَالَ : سَأَتَنَاوَلُ شَيئَاً سَرِيعَاً ، خُبْزَاً وَ بَعْضَ الجُبْن !
بَانَتْ اِبْتِسَامَةٌ لَطِيْفَةٌ عَلَّى وَجْهِ مَدَارْ الَّتِي قَالَتْ : اذهَبْ لِتَجْلِسْ وَ سَنُحَضِرُ لَكَ كُلَ شَيء .
أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ مُوَافِقَاً " الله يرضى عليكم " ، ثُمَ غَادَرَ بَيْنَمَا يَقُوُلُ لِأَمَلْ : هَلَّا أَعْدَدْتِ لِي كُوبَاً مِنْ الشَاي ؟
أَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا مُوَافِقَةً وَ مَضَتْ وَ شَقِيقَتُهَا لِيُحْضِرَا إِلَّيهِ طَعَامَهُ وَ شَرَابْه . بَيْنَمَا يَجْلِسُ شَاكِرَاً الله عَلَّى نِعَمِه عَلَّيهِ وَ هُوَ يَسْمَعُ أَمَلْ تُعِيدُ عَلَّى مَدَارْ مَا أَخْبَرَهَا بِه .