كان وجهه متغضن عابس ..نظرته حادة صارمة..
فك أزرار قميصه العلوي مما أفسح لتنهيدة خيبة أن تفلت منه ..
تململ في جلسته بضيق سافر ..ي
شعر أن المكان يضيق به ..فيغير جلسته كل حين تارة يضع قدم على أخرى وتارة يبسط قدميه ..
بدا التلفزيون يثرثر لوحدة ..والجدران صماء باردة أثر تشبعها بأنفاس قلقلة حائرة كئيبة ..
كانت التكشيرة صفة ملازمة له ولكنها اليوم فاقت كل الأيام..
تقاربا حاجباه ..والتحما ..وأصبحا بحاجة إلى من يفض تلك المنازعة بينهما..أبدت زوجته " شيماء" ترحيبا مشوبا بحذر ..وهي ترمق وجهه المكفهر من حين لأخر..
قربت إليه كوب عصير ..لم ينظر إليها ..اكتفى بإشارة من يده المتبرمة أن تبعده..ففهمت ..لم تبدوا عليها أمارات الدهشة ولم تتسرب إليها عدوى القلق والغضب ..كأن كل ما يحدث طبيعيا !
كانت خبيرة بانتكاسات ما بعد الخسارة ..
" عدنان " منذ طفولته مارس التجارة بأشياء بسيطة ..كبر وهو يحلم بأن يكون تاجرا لا معا يشار له بالبنان ..
كان التاجر الصغير يعود من مدرسته يستذكر بتركيز عالي فينتهي في وقت قصير قياسا بالنتائج الجيدة التي يحصل عليها..كان مولعا بحصة الرياضيات ..يحب الأرقام ..أنها تربطه بعالم التجارة ..
انتهى الدرس ..أنطلق إلى دكان خاله الذي يوكل إليه بالكثير من المهمات ..
تحت أشعة الشمس الدافئة الحنون ..نسيم منعش يلامس وجنتيه..أستقبلته وجوه جيرانه الطيبين فشعر براحة كبيرة ..ويشعر بمزيد من الاطمئنان حين يسمع كل جار يسأل جاره..كيف أصب حت ؟وكيف حالك؟
دفع بيده الصغيرة الباب الخشبي المطعم بدوائر معدنية
من خلال تلك الدكاكين المتقاربة
ت
عود أن يسمع حكاياتهم وأحاديثهم ..مما أكسبه خبرة مبكرة ..فكان يتحدث وكأنه أكبر من سنه..يتحدث ببلاغة وإيضاح شديد ..يفهمه المتحدث ويقتنع سريعا ..واكتسب أيضا دقة الملاحظة..جنبته الوقوع في الأخطاء..
يسير بخطوات واثقة ..إشارة إلى تقديسه لعملة ..وفي ذات الوقت كان الدكان يحقق أرباحا معقولة مما يشعره بالثقة والرضا ..
والآن ..
وشارف الشباب على الأفول وهو بلا إنجازات ولا مكاسب .. ترك الوظيفه منذ عشر سنوات هي عمر تجارته هو كما هو تاجر مغمور باهت يشعر بأنه يخوض معركة يائسة مع الحياة ..
لما ينجح؟هل هو كسول اتكالي؟
أبدا هو بريء تماما من هذه الخصلة أنه يتحمل مسؤولية أعماله كاملة ..يتابع بنفسه أدق الشؤون والتفاصيل ..يشرف على سير العمل بهمة ونشاط . يسافر باستمرار لتوفير البضاعة اللازمة..
بخصم عائد المصروفات والمبيعات يجد عجز مادي
أنها نهاية غير عادلة لشخص يقدس العمل ..أن المشروع أخذ منه الكثير ولم يعطه شيئا..
يسيطر عليه أحساس انه فاشل وإلا لماذا لم ينجح طيلة تلك السنوات؟!
هل يتوقف عن الركض خلف تلك الأحلام الكاذبة التي يمني نفسه بها كل يوم ..التوقف يعني الاستسلام يعني انتظار الموت ..
سيشعر حينها أنه حطام يمشي عل قدميه ..
هل يفتقد الخبرة؟!
الكثير من التجار الجدد يستشيرونه ويستفيدون من خبرته..لو كان قليل الخبرة ما استشاره أحد.
أحد أهم أسباب خسارته أن أمواله تنهب في أمور لا داعي لها ..للأسف القانون لا يحميك بل يسرق أموالك والعمل تحت مظلته هي أكبر خدعة أن المؤسسات الحكومية نقف فاغرة فاهها تبتلع ولا تشبع ..أدفع للتأمينات..أدفع لغرفة الجارة ..أدفع مبالغ باهضة لاستقدام العمال ..أدفع لتأشيرتهم.. أدفع لإقامتهم ..أدفع أموال مضاعفة لوزارة الكهرباء ..
أنت مجبر لوضع بريد برسوم مرتفعه ..أنت مجبر أن تدفع رسوم نظير تعليقك لوحة للمحل لأنها تحتل حيز من الهواء! وأخيرا استحدثوا شيئا جديدا هو أن يلزم تاجر بدفع رسوم لحاويات القمامة!!
نسوا تماما أنه يتكبد رواتب ولأجار والخامات والأجهزة شعارهم هو..
.
أدفع ..أدفع..أدفع ..وبالتالي يشعر أنه يعمل لصالح الحكومة ولا يعود من أمواله إلا الفتات
.أنه يحكمون القبضة علية إلى حد الاختناق ..
شروط مدمرة توضع فوق رؤوس التجار..
فكر أن يعمل خارج تلك المظلة الجشعة ..لماذا يتحمل كل هذا العراقيل والأهوال؟!
أنه لن ينجوا من حملات التفتيش والغرامات التي تصل إلى عشرات الألوف وحبس الزنرانة ..
ومما يغيضه زوجته صاحبة المشروع المنزلي البسيط تفوقت عليه!!
عزى نفسه ت في تحليل نجاح زوجته لا يعود لذكاء حاد ..بل لأنها نفذت بجلدها من تلك المظلة الجشعة..فلا أحد يقاسمها أموالها ..
أن نجاحها يستفزه ..فرزقها هو من يطرق عليها الباب هو من يأتيها باحثا عنها!
فيما هو يجوب الطرق الوعرة ليصطاده إلا أنه يفلت ..ويعيد الكرة ..ومازال في رحلة التيه ..
أنها وجهت إليه ضربة قاضية من غير قصد ..فكان يقسوا عليها عقابا لها ..كان يتجهم في وجهها ..ينتقدها باستمرار..لا ينفذ إي طلب لهم ..لا يصلح إعطاب المنزل مهما كانت ..مؤكدا أن مشروعها هو سبب المشاكل والتقصير ..
ما حاجتك لهذا المشروع؟
ببساطة ..أتركية؟!
وهو يعلم أكثر من غيره ..أنه بفضل رعايتك للمشروع كطفل..سيكبر ويشب على قدميه يافعا..وأصبح يدر عليها دخلا جيدا..
نجاحها يقول له أنا أذكى منك وأكثر حكمة وإلا أين خبرتك الطويلة ؟!
حقيقة مؤلمة بمرارة الواقع..
امرأة جل قدرتها أن تطهو وتنجب الأولاد ..سبقته واعتلت القمة فيما هو يصعد ويتهاوى لينفض عنه غبار اليأس ويعاود الصعود من جديد ..
ثم أنها لا تشعر به ..لو أنها تعاطفت معه وألقت على مسامعه كلمات المساندة والدعم ..يريد من تمد له يدها في زلات قدمه المتكررة ليعاود النهوض مجددا وسريعا ..
كانت شيماء في الماضي تفكر بحلول وتبدي رأيا ..والآن ملت من الخوض في هذه السيرة فقد طالت أزمته و لا تملك إلا أن تتعايش معها كمشكلة مزمنة ليس باليد إلا أن تتجاهلها وتتحاشى فتح الجراح..
أن تشاهد كل يوم ذات المشهد الدرامي ستفقد بلا شك إشفاقك على البطل ..
آمنت بأنه يجب أن يقنع برزقه فهو مقدر ومكتوب ..حتى لو عمل 24 ساعة يوميا ..
حلمت شيماء بمنزل العمر مرارا وتكرار ..عرضت على زوجها مساهمتها مدركة التكاليف الهائلة التي بانتظارهم..
رفض عرضها بإصرار..
كيف يقبل ؟!
أنه رجل البيت وسيدة ..وليس متسول يقبل صدقة من زوجته..
بقبول عرضها ستأثر على هيمنته.. سيلغي هيبته..ستصبح منافسة له في دور القيادة الذي سيتراجع عنه شيئا فشيئا..
حين تنفق عليه سيقدم استقالته تاركا لها دور القيادة ..
سيبقى في هذا المسكن الذي ضاق بهم فهذا أفضل بكثير من قبول إعانتها ..
********
ضجيج السيارات يقتحم إذنيه بفجاجة مزعجة ..عينيه لا ترى إلا الأرقام السالبة تسرح في الفضاء أمام عينيه .. جبينه يتفصد عرقا.. أشعة الشمس تحرقه.. كم تبدو قاسية
في الماضي لم تكن الشمس هكذا!!
أم أن الزمن تغير ..بداية الطفرة الاقتصادية ..مال قليل يساوي الكثير..فلم تكن هناك ضرائب تثقل كواهلهم ..بدا الناس سعداء.. فسامحوا الشمس وتصالحوا مع الرطوبة ..بدا كل شيء جميل واعدا ..دائما يتوقعون أخبار مفرحا ..تهيأت نفوسهم لاستقبال الفرح ..
ولآن سلبت أموالهم .. سرقت ابتسامتهم ..فقد يأسوا من العدل في هذه الدنيا وكيف يرجى عدل منها ؟
إذا كان السارق هو القاضي والمحكمة !
وبدا وجه الفساد يزداد وضوحا يوما
بعد يوم..
يعشعش السوس في كل الأركان فالسوس ينخر في مؤسسات الدولة حتى غدا بنيانها أيلا للسقوط في أي لحظة..
هو يعمل ويجد ويركض والنتيجة لا شيء ..يدين خاليتين ..أين تذهب الأموال ؟!
بدا الأمل كخرافة أن تقطف نجوما لتضعها في جيبك..
يذكر جيدا ..ذلك اليوم حين علق جاره على مؤسسته لافتة كبيرة "المعرض للبيع" حين رآها أستهجن هذا الاستسلام..وعزى سبب الخسارة عن جهلة لأمور التجارة ..لم يخطر بباله أنه هو أيضا مرشح لإغلاق المحل..
حين عمل موظفا كان يحلم باليوم الذي سيكون فيه تاجرا حرا ..وحين عمل أكتشف أنه كم هو واهم ..أنه يشترك في مؤامرة سحب الأموال من الناس حيث يكون التاجر هو الواجهة ليتلقى ويمتص غضب الناس من فحش الغلاء ..ثم تأتي جهات خفية لتشاركه شاء أم أبى عرق جبينه ..
بعد أن تلقى الكثير صفعات الخسارة أصيب بنوع من البلادة ..لم تعد تعنيه الخسارة .. أن هذه المؤسسة لم تعد تخصه ..فليعترف لنفسه بالهزيمة ..أغلق باب داكنة ..في الواقع الضرائب هي التي أغلقته الباب الفعلي وليس هذا فحسب فأغلقت معها الباب الافتراضي..
فلا مكان للمبدعين في البلدان العربية ..وزيادة إعداد العاطلين لا يمثلون عبأ أبدا.. بل هذا الوضع الطبيعي لديهم ..
سحب نفس الأرجيلة بعمق فيما توهج الجمر فيها لتحلق سحب الدخان فوق رأسه ..وهو يتأمل العاطلين المحترمين من أمثاله ..كيف يهربون من إحباطهم وقلقهم ..أحدهم يقزقز اللبلب وآخر ..
جلس هادئا حزينا في جولة تأمله وبدأ تصفح وجوهم واحد واحد ..بدو وكأنهم اتفقوا اتفاقا غير معلن على أن يقلعوا عن السعادة!.
بدوا أكبر من سنهم ..
جلوسهم الطويل تسبب في هرمهم المبكر ..
أن لا تعمل شيئا كأنك تنتظر الموت ..
أو أنك مت قبل أن تموت ..