يتوتَّر كثير من الناس إذا تقدَّم لهم أحدٌ بنصيحة! خاصة إذا كانت النصيحة تدعوهم إلى تغيير مسارٍ قضوا فيه فترة من عمرهم، ولو كانت فترة قصيرة؛ لأنهم لا يحبون التغيير بشكل عام، أو يخافون منه، أو يكرهون اكتشاف أنهم كانوا على خطأ طوال هذه الفترة؛ فيدفعهم كل ذلك إلى ردِّ النصيحة؛ بل والهجوم على الناصح، ولو كان أمينًا.
والحقُّ أنَّ ردَّ النصيحة خُلُقٌ غير محمود؛ لذلك ذَكَرَه الله عز وجل في صفات القوم المـُهْلَكين، ولقد قال صالح عليه السلام لقومه: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]!
وقد يدفع هذا السلوك أصحابه إلى شيء عجيب؛ وهو الضغط على الناصح حتى يقول ما يُوافق هوى المنصوح! مع أنهم يَضُرُّون أنفسهم بذلك؛ إذ يحرمون أنفسهم من نور الحقيقة، ولقد حملت لنا كتب السيرة النبوية قصة لطيفة تدلُّنا على هذا المعنى؛ فقد روى ابن إسحاق بسند صحيح -كما قال الألباني- إلى عروة بن الزبير رضي الله عنه قال -وهو يصف رغبة المسلمين في بدر في لقاء القافلة دون الجيش-: فَأَصَابُوا رَاويةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أسْلَمُ غُلاَمُ بَنِي الحجَّاج، وعَرِيضٌ أَبُو يَسَارٍ، غُلاَمُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالاَ: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ -أي الجيش- بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ. فَكَرِهَ القومُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لأَبِي سُفْيَانَ -أي القافلة- فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا قَالاَ: نَحْنُ لأَبِي سُفْيَانَ. فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَقَالَ: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاللهِ إنَّهُمَا لِقُرَيْشِ.."!
إن الصحابة كانوا يُريدون سماع أنَّ القافلة ما زالت موجودة، فضربوا الغلامين حتى قالا خلاف الحقيقة! وهنا هدأت نفوسهم!
هل هذا ما نُريده الآن؟!
أيها الأبناء..
درِّبوا أنفسكم على سماع النصيحة، واقبلوا من هذا وذاك نصحه، فإن أعجبكم فبها، وإن كرهتموه رددتموه بأدب، ولا تحرموا أنفسكم من خبرات الآخرين، ولا تحرقوا مراكبكم، ولا تُطلقوا الأحكام على قلوب الناس فإنها سرٌّ بين الله وعباده..
تَفَكَّروا في نصيحة المحبين لكم، واخرجوا من معسكركم المغلق؛ فالخير ليس محدودًا في داخله؛ إنما يعيش في الكون معنا الآلاف ممن ينصحوننا بحبٍّ، ويُريدون لنا الخير بصدق؛ فوَسِّعوا مدارككم، وارصدوا المقدمات والنتائج، وراجعوا النصائح القديمة من هذا وذاك؛ لتعلموا صحَّة طريقكم من عدمه، وإياكم من التكبُّر عن تعديل المسار إن تبيَّن لكم الخطأ فيه..
اعملوا لآخرتكم، ولا يأخذنَّكم الشيطان بعيدًا عن نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقبول الأعمال لا يكون بالنوايا الحسنة فقط؛ بل لا بُدَّ من موافقة السُّنَّة فيها، ولا تَردُّوا حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتحايلوا عليه، ولا تُطَوِّعوه ليتوافق مع هواكم ورؤيتكم؛ فإن أول الهلكة اتباع الهوى، ولا تُغْلِقوا على أنفسكم منفذًا شرعيًّا جعله الله لكم رحمة بكم؛ فإن التضييق على النفس والناس إثمٌ كبير.
ويعلم الله أنَّ عندي ردًّا علميًّا مُوَثَّقًا ومتينًا على كل ما ذكره العلماء، أو كل ما علَّق به أبنائي على الموقع، ولكني لا أريد أن نعيش في جوِّ المناظرات والتشتُّت، ويعلم الله كذلك أني كنتُ أتمنى أن تكون لي معكم في هذه الفترة -أيها الأبناء الفضلاء- كلماتٌ كثيرة أتناول فيها ما أراه صالحًا لزماننا وأحوالنا -على الأقل من وجهة نظري وواقع دراستي للسيرة والتاريخ- ولكن هالني ما رأيتُه من خروجٍ عن آداب الحوار، وأفزعتني حالة الصمم عن سماع النصيحة؛ خاصة من أبنائي الذين هم في أول طريق العلم، ثم الجدل المقيت الذي يقود إلى الشحناء والبغضاء، إضافة إلى حالة الاستنفار التي قادها بعض رجال الدعوة والعلم على صفحات الإنترنت والفضائيات، وعن طريق البيانات والتصريحات، يُهاجمون فيها شخصي، ويتعرَّضون -في غيابي- لاسمي؛ مع أني على مدار ما يقرب من ثلاثين سنة من العمل الدعوي لم أُصَرِّح قطُّ بنقد عالمٍ بعينه، أو داعية بشخصه؛ بل كنتُ أحفظ للجميع -من كافة الاتجاهات- هيبته، وأُوَقِّر للكلِّ ذِكْرَه، ومع أني ذكرتُ رأيًا لي على موقعي، ولم أقتحم موقع أحد، ولم أُهاجم الآراء الأخرى، مع أن الجميع يُشاهد آثارها.
فما الذي حدث أيها الأحباب؟ وهل غيرُ مسموحٍ لأحدٍ أن يكون شافعيًّا في زمان أحمد بن حنبل؟
يا قوم؛ إني لكم ناصح
أمين!
خلاصة الأمر أنَّ هذه الأجواء العجيبة جعلت النصائح -للأسف- نوعًا من العبث وإهدار الطاقات؛ خاصة أنَّ متابعة الجدالات والبيانات والتعدِّيات تصرفني عن أعمال كثيرة مهمَّة أعلم أنها أصلح لآخرتي، فإلى أن يتغيَّر هذا الحال سلام عليكم، وحسبي أني بحثتُ عن رضا الله ولو بسخط الأصدقاء والجماهير؛ قال تعالى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].
بقلم الدكتور راغب السرجاني