يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
إن من الأهمية بمكان أن يرتبط قلب المسلم بعقيدته الإسلامية، ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم؛ ويتطلع إلى الله والدار الآخرة؛ وينظر حوله على العجائب والأسرار، وخلفه وأمامه على الحوادث والمصائر، ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.
ولكن للأسف عندما ترتبط هذه المشاعر والقيم بأعراض الدنيا من قوميات وطوائف وفرق وضلالات أفراد وشعوب وقبائل وأهواء نفوس، هنا تختل العقيدة، ومن ثم تختل منظومة الحياة ويسود الفساد في الأرض.
كلنا الآن نعيش أجواء حرب طاغية من كل دول أعداء الله بقيادة اليهود الصهاينة وأعوانهم على المسلمين بقطاع غزة، ولا ناصر لهؤلاء المستضعفين إلا الله، بل قد نرى من يؤيد هذا العدوان من المسلمين في العلن، ومنهم في الخفاء، ومنهم من يفرح لوقوع هذا العدوان على أهل غزة وينادي بعدم مساعدتهم، بل وحتى الدعاء لهم بالنصر والتمكين.
وهذا كله واضح للعيان على وسائل النشر والإعلام، وقد لمستُ هذا بنفسي، إذ قام أحد الدعاة عقب صلاة من الصلوات بالدعاء لأهل غزة، فمنعه أحد المصلين، وذكر أن هؤلاء ليس لديهم الفهم لدينهم.
وذكر لي أحد الشباب على النت من نيجريا أنه يتألم من مثل هذا الأمر أيضا في نيجيريا، إذ أن هناك من يعتبرون أهل غزة روافض.
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد، ولا في حدود ذلك الحادث. إنما كانت هذه مناسبة لتكوين العقيدة الصحيحة التي يجب أن يتربى عليها كل مسلم.
فقد انطلق بهم القرآن الكريم في هذه السورة إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث المؤقت، وليصلهم بالكون كله، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما. وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة، عزلة المكان والزمان والحدث، إلى فسحة الكون كله: ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه.
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير، ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون، وتحكم فطرة البشر؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق، ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها، وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة.
كما تكشف لنا سورة الروم عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء، عقيدة المسلم الحق.
فالسورة في مجملها تربي المسلم على عقيدة التوحيد فهي تكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس، وأحداث الحياة، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الكون ونواميس الوجود. وفي ضوء هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة، وكل حادث وكل حالة، وكل نشأة وكل عاقبة، وكل نصر وكل هزيمة... كلها مرتبطة برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق، وأن مرد الأمر كله فيها لله وحده؛ {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5]
وهذه هي الحقيقة التي يؤكدها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات، والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير.
فهل لنا كمسلمين أن نربي أبناءنا على هذه العقيدة التي لا تخضع لأهواء البشر مهما كان وضعهم وشهرتهم ومكانتهم، ويكون حبنا لنصرة أهلنا في غزة نابعة من تلك العقيدة كما جاءت في سورة الروم.
كما أناشد دعاة الإسلام أن تكون هذه عقيدتهم هم أنفسهم قبل أن يدعوا غيرهم لأنهم سيسألون أمام رب الأرباب في يوم لا تنفعهم مكانتهم ولا شهرتهم ولا عدد أتباعهم.
هنا يأت نصر الله لنا كمسلمين عندما نكون على العقيدة التي يرضاها ربنا، سواء رضي بها غيرنا أو لم يرض.