كثرة الحلف في البيع والشراء
الحَلِف والحَلْف لغةً: اليمين، وهو مصدر حلَف يَحلِف حَلِفًا وحَلْفًا، والواحدة حلفَة، وشيء مُحلِف؛ أي: يحمل الإنسان على الحَلِف، والمحالفة: أن يحلف كل واحد للآخر، ومادة (ح ل ف) أصل واحد يعني: الملازمة، وذلك أن الحالف يلزمه الثبات على محلوفه، والحلَّاف: كثير الحلف في الجد والهزل[1].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كثير الحلف في المتاجَرة من جملة الذين يبغضهم الله تبارك وتعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحَلاف، والفقير المُختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر))[2]، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قلتُ: فمَن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: ((المُختال الفخور))، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، قلت: ومن؟ قال: ((البخيل المنَّان))، قال: ومَن؟ قال: ((التاجر الحلاف، أو البائع الحلاف))[3].
و"الحلاف" صيغة مبالغة، وهو الذي يُكثر الحلف على سلعته بحق أو باطل، وإنما أبغضه الله تعالى لأنَّ الحلاف الكثير الحلف انتهك ما عظَّم الله من أسمائه، وجعله سببًا وحيلة لدرك ما حقَّره من الدنيا لعظمها في قلبه، فأبغَضَه ومقَتَه، هذا في الحَلِف الصادق، فما بالك بالكاذب؟ فإنه يجمع به بين قبح الكذب، والتهاون بالله، وغرر المُشتري[4].
وقد نهى الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن طاعة وتصديق هذا الصِّنف من الناس، فقال: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴾ [القلم: 10]، وهو المُكثر من الأَيمان، الذي يحلف بالله كاذبًا، وإنما سماه مهينًا؛ لاستجازته الكذب والحلف عليه، والمهين: مِن مهن، بمعنى: حقر وذلَّ، فهو صفة مُشبَّهة؛ أي: لا تُطع الفاجر الحقير؛ وذلك أن الكاذب لضَعفِه ومَهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلِّها[5].
كما نهى تعالى المؤمنين عن كثرة الأيمان والحلف في كل شيء؛ لما في ذلك من الجرأة على الله تعالى، فقال: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224]؛ أي: لا تَعترِضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء، حقًّا كان أو باطلًا؛ فإن الحلاف مجترئ على الله تعالى، والمُجترئ عليه لا يكون برًّا متقيًا ولا موثوقًا به؛ ولذلك أنهاكم عن ذلك إرادة برِّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس، فكثرة الأيمان تبعد مِن البر والتقوى، وتقرِّب من المأثم والجرأة على الله تعالى[6].
ولذلك كان إكثار الحلف في البيع مكروهًا مذمومًا وإن كان صادقًا[7]، فهو يذهب ببركة البيع ويرفعها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلف مَنْفَقَة للسلعة، مَمْحَقة للبركة))[8]، وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه يُنفِّق ثم يَمْحَقُ))[9].
وفي كلا الحديثين نهي وتحذير عن كثرة الحلف في البيع، كما هي عادة أهل السوق، فهو وإن كان مَظِنَّة لرواج السلعة ونَفَاقِها، إلا أنه سبب لذَهاب البركة ورفعها، والمراد من محق البركة: عدم انتفاعه به دينًا ودنيا[10].
هذا إن كان الحلف صادقًا، أما إن كان كاذبًا، فهو يجمع إلى ذم هذا الفعل وكراهته كبيرةً من الكبائر، مع ما يعقب ذلك من العقاب الرباني له يوم القيامة، فهو من جملة أولئك الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة كلامًا يَرضى به عنهم، بل بكلام يدلُّ على السخط، أو لا يرسل إليهم ملائكته بالتحية أو بالبشارة بالنَّجاة بالرحمة، ولا ينظر إليهم نظر رحمة وتلطف، وفي ذلك إهانة لهم واستحقار، ولا يُطهِّرهم عن أدران الذنوب بمياه مغفرته[11]، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: ((المسبل[12]، والمنان[13]، والمنفِّق سلعتَه بالحلف الكاذب))[14].
ويدخل في جُملة هؤلاء من حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلَفَ على سلعة لقد أَعطَى بها أكثر مما أَعطَى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليَقتطِعَ بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضْلَ ما لم تعمَل يداك))[15]، وفي رواية: ((ورجل بايَعَ رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلَفَ له بالله لأَخَذَها بكذا وكذا، فصدَّقه، وهو على غير ذلك))، وإنما خص وقت ما بعد العصر بالذِّكر؛ لأن الأيمان المغلَّظة تقع فيه[16]، وهو وقت شريف تُرفع فيه الأعمال إلى الله، ووقت ختامها، والأمور بخواتمها، فتغلظ فيه عقوبة الذنب، وقيل: إنه ليس بقيد، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن مثله غالبًا يقع في أواخر النهار، حيث يريدون الفراغ من معاملاتهم[17]، وذِكرُ الرجل غالبيٌّ؛ فالأنثى كذلك[18].
قال الطيبي: "إنما جمع الثلاثة في قَرَنٍ واحد؛ لأن مُسبل الإزار هو المتكبِّر الذي يترفَّع بنفسه على الناس، ويحطُّ من منزلتهم، ويحقِّر شأنهم، والمنان إنما يمنُّ بعطائه لما رأى من فضله وعلوِّه على المُعطَى له، والحالف البائع يراعي غبطة نفسه، والهضم من حق صاحبه، والحاصل من المجموع: عدم المبالاة بالغير، وإيثار نفسه عليه؛ ولذلك يجازيه الله تعالى بعدم المبالاة والالتفات إليه"[19].
قد نصح النبي صلى الله عليه وسلم للتجار أن يَخلطوا بيعهم بالصدَقة؛ لتكون كفارة لما يَبدر منهم من حلفٍ وكذب؛ فعن قيس بن أبي غرزة قال: كنا نُسمَّى السماسرة، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبيع، فسمانا باسمٍ هو خير مِن اسمنا، فقال: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره الحلف والكذب، فشوبوا بيعكم بالصدقة))[20].
ويبقى النهي عن الحلف في البيع والشراء هو الأصل، فالصادق لا يَحتاج في تعاملاته إلى الحلف، إلا إذا أُلجئ إلى ذلك وتحتَّم عليه، فيحلف صادقًا، وأما الحلف الكاذب، فلا شكَّ أنه كبيرة من الكبائر، وهو محرَّم في كل الأحوال.