من تواضع لله رفعه
الحمد لله رب العالمين، المتَّصِف بالعظمة والكبرياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، أفضل المتواضعين لرب العالمين، وأعرفهم بحقوق الخَلْق أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله، واعلموا أيها المسلمون أن التواضع صفة حميدة شريفة، وصاحبه له الدرجات الرفيعة، يحظى بكل خير، ويَسلَم من كلِّ شر، يحظى بعلو المنزلة عند خالقه ومربِّيه، ويعافى من صفة إبليس الطريد اللعين الذي تكبَّر عن امتثال أمر ربه بالسجود لأبينا آدم؛ مفتخرًا بأصل خلْقه بأن خُلِق من نار، وآدم خُلِق من صلصال كالفخار.
فالتواضع له فوائدُ جَمَّة، ومزايا حميدة عدَّة، منها: أنه يُكسِب صاحِبَه محبةَ الناس له، ويزرع في قلوب الناس مودته؛ بأن يَكبُر في عيونهم عند تواضعه، ويَصغُر ويَحقُر إذا مشى واختال وتكبَّر وصَعَّر خده.
وجاء في الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، ولا زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، ولا تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفعه))، كل ذلك فضل من الله على عبده بأن امتثل أمر الله فعطف على خلق الله بماله، وعفا عمن ظلمه رجاء الثواب من عند الله، ولم يُشارِك الله في صفة الكبرياء والعظمة، بل عرف قَدْر نفسه بأنه مخلوق ضعيف، وأن ما اتَّصف به من حُسْن خُلُق، وزيادة مال، ورِفعة منزلة، وعِظَم جاه، كله من عند الله سبحانه وتعالى.
قال بعض العلماء: الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة الكِبْر.
فالتواضع خَصلة حميدة؛ لأن المرء كلما كَثُر تواضعه، ازداد بذلك رفعة.
أيها المسلمون:
إن التواضع يكون من الإنسان على نوعين: أحدهما محمود، والثاني مكروه، وكلاهما مُشعِر بالذِّلة والخضوع؛ أما المحمود، فهو: تَرْك التطاول على الناس، وعدم غمْط حقوقهم، وخدْشِ كرامتهم، وتقديرُهم بما يستحقونه؛ تواضعًا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، وشعورًا بضعفه، وفَهْمًا لحكمة الله بتفاوُت خلقِه، وأما المذموم، فهو: الذل والخضوع لذي الدنيا من أجل دنياه؛ رغبة فيما عنده، وطمعًا في ماله، غير مبالٍ بما يذهب عليه من ثواب الله الذي هو خير وأبقى من الحُطام الفاني، وربما ذهب عليه شيء من أمور دينه الذي فيه صلاح معاشه ومعاده بسبب هذا التواضع المذموم.
أيها المسلمون، والتواضع لله - عز وجل - على ضربين:
أحدهما: تواضُع العبد لربه عندما يأتي بالطاعات غير مُعجَب بفعله، ولا راءٍ له عنده حالة يُوجِب له بها أسباب الولاية، إلا أن يكون المولى - عز وجل - هو الذي يتفضَّل عليه بذلك، وهذا التواضع هو السبب الدافع لنفي العُجْب عن الطاعات.
والتواضع الآخر هو: ازدراء المرء نفسه واستحقاره إياها عند ذِكره ما قارف من المآثم؛ حتى لا يرى أحدًا من العالم إلا ويرى نفسَه دونه في الطاعات، وفوقه في الجنايات.
وقد فُسِّرت الخشية التي امتدح الله بها أنبياءه وأولياءه في التواضع بقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]؛ أي: متواضعين فيما يأتون من الطاعات لربهم.
أيها المسلمون:
لِزامًا على كل مسلم التزامُ التواضع لإخوانه المسلمين؛ فلقد أمر الله - عز وجل - به رسولَه صلى الله عليه وسلم، والأمرُ للرسول أمرٌ لأمته ما لم يَرِد تخصيصٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وفي حق الوالدين يقول الرب: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، وكما أمر الرسول إمام الأمة بأن يتواضَع لرعيَّته، أمر الرعية أن يتواضعوا لولي الأمر في حدوده؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59].