" النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق "
منزلة الإنسان عند ربه تعالى :
لا شك أن منزلة الإنسان عند الله – عز وجل – منزلة عظيمة، كيف والله جلَّ ذكره يقول : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا "(الإسراء، الآية: 70) .
ولهذا كُتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا والعكس، فقال تعالى : "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة، الآية: 32)، قال سعيد بن جبير : «من اسفك دم مسلم فكأنما استحلَّ دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا» قال ابن كثير : وهو الأظهر (كما في تفسير ابن كثير) .
موقف الإسلام من إراقة الدماء :
قال الله تعالى في آية الأنعام : "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " (الأنعام، الآية: 151) قال البغوي : «حرَّم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما أبيح قتله، من ردة أو قصاص أو زنا بموجب الرجم» (كما في تفسيره ) .
وقال الشوكاني : «"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ" اللام في النفس : للجنس التي حرم الله صفة للنفس، أي: لا تقتلوا شيئًا من الأنفس التي حرم الله إلا بالحق، أي : إلا بما يوجبه الحق» (كما في تفسيره فتح القدير) .
قلت : لقد حرَّم الله سفك الدماء وإزهاق الأرواح تحريمًا شديدًا إلا ما استثناه الشرع، وهذا يشمل المسلم والكافر والمعاهد والمستأمن وأهل الذمة .
أما المسلم فقد دلَّ عليه حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله» (قطعة من حديث مسلم )، وحديث ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (أخرجه البخاري)، وأما المعاهد قد دلَّ عليه حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ قَتَل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا»(أخرجه البخاري)، وأما أهل الذمة فقد دلَّ عليهم حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلمقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قتل رجلاً من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة سبعين عامًا» (أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع) .
قلت : وهذه الأدلة المتقدمة التي جاء فيها كفر القاتل محمولة عند أهل السنة والجماعة على الكفر الأصغر الذي لا يُخرج من الملة .
القصاص والحكمة منه :
القصاص ثابت بالكتاب والسنة والإجماع،أما الكتاب: فقال تعالى : "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ" (المائدة، الآية: 45) وقال : "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) "(البقرة، الآية: 179) .
وأما السُّنَّة : فلحديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قتل له قتيل فهو بأحد النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد» (أخرجه البخاري) .
وأما الإجماع : فلا خلاف بين أهل العلم في قصاص القاتل الذي توفرت فيه شروط القصاص وانتفت عنه الموانع، والقاتل عليه ثلاثة حقوق، قال خليل هراس : «والصحيح أن على القاتل حقوقًا ثلاثة: حقًا لله، وحقًا للورثة، وحقًا للقتيل ، وحق الله يسقط بالتوبة، وحق الورثة يسقط بالاستيفاء في الدنيا أو العفو، وأما حق القتيل فلا يسقط حتى يجتمع لقاتله يوم القيامة ويأتي ورأسه في يده ويقول : يا رب سل هذا فيم قتلني (كما في شرح العقيدة الواسطية ) .
قلت : وللقصاص حِكَم عظيمة لعل من أبرزها ردع الناس عن سفك الدماء التي حرمها الله وإقناع أولياء المقتول حتى لا يطول النزاع وأخذ الثأر وغير ذلك من الحكم .