سجينُ الماضي
كان الزّمنُ ضبابيّا مُغلفّا ببُرودةِ أنفاسه حملتهُ شتاءُ ديسمبر إلى مدارِ أحلامه حيثُ تدور كل الأشياء فتعبثُ بمشاعره.. كان يحمل فوق معطفه الشتوي بردَ مدينةٍ بأسرها وداخله كان يشعر بألمٍ شديد يحيط بعنقه شالُ صوفيّ وشعره يتطاير كحبّات مطر نزلت لتوّها من السماء ظل يسيرُ وحيدا رُفقة صديقه الذي لا يُفارقه كلما عصفت به أيدي الشتاء وشرّدته.. فكل الأشياءِ تسيرُ عكس توقعاته وكل احلامه اندثرت في ليلة شتاء ممطرة سحبته من بين براثين الظلام ورمت به حيث نهاية الاشياء كلها ذكرياتُ عمرٍ ضائع بين حنينِ الاماكن وبرودة الكلمات.. وضاعت الرسائل والوعود كلها صارت باهتة كبهتان الكرسي وفنجاني القهوة الداكنة ولعل فارق الصمت كان الفيصل الذي قال حكمه سنفترق.. لِنفترق حتى لا نتالم أكثر من اللازم.. كنت أعلم جيدا أن حبك سيدتي لمْ يكن صادقا ولم تكوني حبيبتي يوما ما فالآختلاف كان من سماتك سيدتي كنت إستثنائية بكل المقاييس ولربما كنت تحلمين بفارس غيري يهديك اشياء أُخرى غير قصائدي يسكنك قصرا حتى تشبعي فضولك اللامنتهي.. وأبقى أنا سجينُ ذكراكِ سجينُ حبٍّ كاذبْ أخرجُ منه كرجلٍ منهزم مشتت غير قادر على المواجهة ولا على البحث عنكِ في وجه إمراة أخرى.. معادلة معقدة أُحسّها غير منصفة لرجل في عقده الرابع.. مع فتاة في مطلع العشرين.. رجل أمضى عُمره يبحث عن وطنٍ لنزواته كرجل مسن على نافذته تحطُّ كلّ يوم يمامات صغيرة ّ ظلتّ موطنها ينثر لها الحبّ ويضع لها الماء ..هكذا أنا أمضي مع الرّياح حيث أخذتني أستقر.. هناك في المقهى تربثُ ذكرياتنا معاً.. أنتِ بعطرك الباريسي وأنا بفنجاني الذي لا يُفارقني.. كم من الزمن انتظرتك وكم طالعت ساعة معصمي حتى نسيت من أنا.. خارطتي رسمتها منذ أن دخلت قلبي المنهك هذا ..وعبثتِ به..
-------------
وأدخل هنا حيث جمعنا القدر.. مخلفا ورائي الكثير من الألم.. فذاكرتي قوية للدرجة التي تخزن معها تفاصيل شعرك الأشقر وأحمر الشفاه.. كانت الطاولة تنتظرني حتى أؤنس وِحشتها ..جلستُ هذه المرة في كرسيك حتى أُبقيكِ معي حاظرة في مُخيّلتي.. فالبُعد صعبٌ سيدتي أكثر ممّا تصورت.. كان المكان مليئا بالحكايا للدرجة التي سافرت فيها مع القلم محاولا استرجاع لحظات السعادة التي اغرقتنا في الوحل..
------------
غيرَ أنّ صوتا رقيقا أفاقني من وقع الصدمة وأعادني إلى رُشدي .. سيدي ماذا تشرب.. بتثاقل كبير .. فنجان قهوة ساده لو سمحتي آنستي .. على الرّحب..
كلمات قطعت خُلوتي .. ذكّرتني بِك .. وبصوتك الفيروزي .. أين أجدك الآن .. فحتى الشوارع التي قطعناها سويا على الورق خذلتني هذه المرّة.. وتركتني أسيرُ وحيدا .. دون عنوان..
حاولتُ آسترجاع لحظاتنا معاً.. غيرَ أنَّ كلَّ شيءٍ تبدّد.. يا مريم.. فالذاكرة صارت رماداً.. عبرتِ في لمحِ البصر.. وأخدتِ معكِ نصفي المليء.. تاركةً لي النصفَ الفارغ.. فأنا الآن لاجئ على هامشِ حبّك ..
فكّرتُ مِراراً أن أستقلّ قطاراً وأصعد مع العابرين.. وأترك كلّ شيء ورائي.. الصور والذكريات ورائحة المطر والحنين إلى ملامح وجهك القمرّي.. إلى أغنياتِ المطر .. إلى ساعي البريد.. إلى رسائل الصباح المحملة بعبقِ الياسمين ..
كاّن شيئا ما يعيدني إليك.. يشدني كصبي يتعلق بسيارة ألعاب.. حُلم صغير والواقع ُ أكبر .. هكذا أنا شبيهُ طفلٍ في عمر الخامسة .. أتعلقّ بشدة وأنهار بشدة..
أتعلق بتفاصيلَ باهتة .. لعلّ القدر يجمعنا سويا ذات يوم..
ولعلّكِ تَعِينَ حجمَ الألم الذي خلفه فراقكِ ..
---------
تفضل سيدي.. فنجانَ القهوة .. سادة كما طلبت.. ياه .. مضى زمن طويلٌ على ُسباتي هذا .. نسيتُ المكان ورائحة العشّاقِ من حولي .. وتذكّرتك !
شكرا لكِ آنستي .. العفو !
كان مذاق القهوة خفيفا لم يُشعرني باللإكتفاء كأن الكافيين لم يكن موجودا من قبلُ إلاّ بحظورك .. كنتِ تُضفين على القهوة جرعةً مسكنة .. تُنسيني تعب اليوم بأكمله .. كلّما رأيتك.. كلّما رسمتِ بأحمر شفاهك قُبلة على خذّي .. ثِقلُ حظورك كان له طعمٌ خاص..
إحتسيتُ رشفاتٍ على عجل .. سحبت معطفي من على الكرسي .. وضعت النقود على الطاولة .. وسرتُ مودعا المكان .. كأنها المرّة الأخيرة ..
غمرني حُزن كبير .. لأنني خرجتُ كما دخلت .. لم يتغير شيء .. لا شيء ..
كنت أعتقد أن دفء المقهى سيُنسيني حجم البُعد .. لكنه أجّج كل شيء بداخلي ..
النهاية بقيت مُعلقة .