غزال في شوارع طوكيو

غزال في شوارع طوكيو

دقت الساعة العاشرة صباحا , نهض جاد من كرسيه وأخد يفرد يديه كجناحي صقر ويلتوي بجسده بعد جلوسه لثلاث ساعات متواصلة وهو يحرك ريشته على لوحته الزيتية التي كان منكبا عليها طوال الأشهر الثلاثة السابقة الآن أخيرا اكتملت , وقف في زاوية مرسمه ونظر من مكانه البعيد إلى لوحته وقال في نفسه إنها رائعة .. تماما كالحقيقة أو ربما أجمل , عليّ الإسراع كي لاأخلف موعد لقائنا
وقف عند إشارة المرور وسط حشدٍ غفير من الناس ينتظر أن يعبر للجهة المقابلة , كان مميزا بينهم فطوله الفارع وضخامة جسمه وشعره الأشقر الذين ورثهم من أمه الروسية يمنحاه مظهرا أوربيا بالرغم من أن أباه سوري من دمشق , كان جاد رساماً موهوباً أقيمت له عدة معارض في سوريا وألمانيا وفرنسا وكحال الفنانين كان حساسا للغاية لديه عادات قد تكون غريبة وغير مألوفة لدى الآخرين . كان يعشق الصمت يرى أن الأصوات تدمر جمال الأشياء , لا يتكلم إلا عند الضرورة أشبه مايكون بالأبكم لكن بمحض إرادته , ولانه في مجتمعاتنا العربية يصعب فهم هؤلاء ونتجرأ على منحهم صفة الجنون عانى جاد من فضول وحشرية البشر في محيطه وسخريتهم المتواصلة منه , فقرر أن يهاجر وينتقل للسكن في مجتمع يقدر كل الأحياء في الكون ويحترم عاداتهم ويمنحهم الخصوصية المطلقة وكان من البديهي أن يذهب إلى اليابان فاستقر في طوكيو
قام باستئجار بيت صغير وعلى بعد عدة شوارع قليلة قام باستئجار مرسم له كخطوة منه لإجبار نفسه على أن يحتك بالناس وان يتواصل مع الأخرين كل يوم عند ذهابه لمرسمه وعودته لبيته

                                             ..............................................


وقف كالعادة ينتظر قدومها لتقف امامه بالطرف المقابل تنتظر عبورها , لتتقاطع نظراتهم في منتصف الشارع كلا منهما يذهب للجهة الاخر . هاي تسير برشاقتها المعهودة لتقف يساعد طول قامتها الذي تجاوز 177سم ان تلاحظ من قبله حتى وان لم تقف بالمقدمة . جميلة انتي كالعادة حتى عندما تجمعي شعرك بشكل متسرع وتربطينه في الخلف .. الجمال العربي يزين طوكيو بشعرك الاسود وعيني الغزال والخجل الذي يعلو وجهك ... قالها جاد في نفسه
كان جاد قد لاحظ وجودها منذ ثلاثة اشهر . جذبته ملامحها الشرقية في ارض ساموراي ليتخذها موضوع لوحته القادمة فبدا يستغل الدقائق القليلة يوميا لحفظ معالم وجهها طوال الاشهر الماضية لم يخطر في باله ان يتحدث معها , كان يخشى ان يفسد صوتها وطريقة كلامها اللوحة الجميلة التي رسمها في ذهنه لها
اليوم قرر ان يكلمها . كلانا عرب في ارض الغربة .. تسائل في نفسه هل ياترى لاحظت وجوده ؟! او نظرات الفنان المصوبة نحوها ؟! ربما حسبتني اوربيا فملامحي لا توحي بكوني عربيا , مع حركة الحشود لعبور الشارع وقف اليوم مكانه لا ينوي العبور كعادته متوجها لمنزله .وقف منتظرا مجيئها أليه.. منتظرا قدوم الغزال نحوه
اقتربت منه فالقى عليها التحية
"صباح الخير " لم تجبه واكملت سيرها جرى نحوها واصبح بجوارها وكرر سلامه " صباح الخير " لم يتغير شيء عندها امسك ذراعها برفق فالتفتت عليه .افلت يده بسرعه وقال محدثا بالعربية
" اعتذر منك القيت السلام عليك مرتين لكن يبدو انك لم تسمعيني .. انا اسمي جاد و.." قاطعته واخذت تقوم بحركات سريعة بكلتا يديها فهم على اثرها انها صماء بكماء عندها تحول لون وجهه جاد للاحمر خجلا ولقلة تعاطيه مع الناس لم يعرف كيف يتصرف فهمت الفتاة الموقف الذي هو فيه فبتسمت وتناولت هاتفها وكتبت فيه بالانكليزية واعطته لجاد كي يقرائها
" مرحبا انا اسمي استير "
  قرأ الرسالة ونظر اليها كأنه فهم الموقف , اعاد الهاتف لها واخذ يكتب في هاتفه بالانكليزية ايضا وفور انهاء ماكتبه سلم الهاتف اليها . قرأت الرسالة وابتسمت
"  اهلا انا اسمي جاد عربي ايضا من سوريا   "
ثم كتبت له من جديد
" انا من قبرص لماذا هل اشبه العربيات ؟!! لكنك لم تخطىء تقريبا جدتي أم أبي من لبنان "
وعاد وكتب لها
" انا اعتذر منك .. حقا .. لااعرف ماذا اقول .. حسنا مااردت ان اخبرك اني رسام مرسمي قريب من هنا وقد قمت برسمك وانهيت الرسمة اليوم واحببت ان اريك اياها لو انت متفرغة "
ابتسمت مجددا وكتبت
" لماذا تعتذر قبرص قريبة للغاية من سوريا ثم جدتي عربية والجمال العربي جميل سعدت للغاية بتشبيهك لي .. حقا رسمتي ؟ انا متحمسة للغاية لكن انا في عجل من امري الان اعطني عنوان مرسمك وسأزورك في وقت قريب "
ابتسم جاد ومسح العرق الذي علا جبينه , واعطاها عنوان المرسم ورقم هاتفه واخبرها على مواعيد تواجده هناك

                                 ..........................................

بعد مضي يومان استلم جاد رسالة من استير تخبره انها متفرغة اليوم وتود ان ترى رسمته , سر كثيرا عند قراته للرسالة واخذ ينتظر قدومها متشوقا لرؤيتها وبعد مضي ثلاثين دقيقة طرق الباب لتدخل استير لمرسمه
كان المرسم عبارة عن قاعة واسعة ذات ارضية خشبية توزعت على طولها لوحات مكتملة واخرى لاتزال تنتظر ريشة جاد لاكمالها موزعة بشكل منظم يتخلل القاعة اشعة الشمس المنبعثة من نوافذ كبيرة ممتدة من السقف نزولا لأرضية المرسم وعرضها شغل مساحة ضلع كامل بالقاعة المستطيلة امام باب المرسم  وفي منتصف القاعة توجد مائدة مستطلية كبيرة تواجدت عليها ادوات الرسم والاصباغ واشياء اخرى
رحب جاد بضيفته واخذها بجولة سريعة على لوحاته الى ان وصلا الى لوحة مغطاة بالابيض وقف عندها وامسك يكتب بالدفتر الذي كان يحمله
" هذه هي اسميتها غزال في شوارع  طوكيو .. اريد ان اعرف رأيك الصريح "
ثم رفع الغطاء عن اللوحة . لتصاب استير بالدهشة وقد توسعت مقلة عينيها ونظرت لجاد مطولا ثم سحبت الدفتر من يده وبدات تكتب بسرعة
" حقا جاد .. حقا جاد هذه انا ... انها لوحة رائعة ليس لاني فيها لكنها فعلا ... انت موهوب ياجاد .. فعلا "
كان الدفتر يتنقل بين ايدي جاد واستير تحدثوا عن انفسهم طفولتهم حياتهم اخبرت جاد انها تعمل راقصة باليه وانها تحدت نفسها والجميع .. راقصة باليه صماء بكماء انها سابقة . لكنه تطلب منها مجهود جبار وتقنيات خاصة استخدمتها لنفسها كي تتقن الحركات وتحترف الرقص وتنافس اقرانها وهي صماء بكماء حتى انها تقدمت بطلب عمل في مسارح برودواى في نيويورك وهي تنتظر منهم الرد . ثم اخذت استير تعلم جاد بعض حركات الاشارة لينقضي النهار كله وهما جالسين على ارضية المرسم يتبادلون الكتابات بينهما
توطدت صداقة جاد واستير خلال اشهر واصبحت قوية بالرغم من التناقض في شخصية جاد الانطوائية المقلة للكلام الا انه كان يستمتع بالوقت الذي يقضيه مع استير والذي ان صح التعبير "الصماء الثرثارة بلغة الاشارات " والتي طالما مازحها جاد بقولة " لطالما ظننت ان الصم البكم قليلي الكلام لكن على مايبدو ان وجودك بهذا الشكل كان ذا فائدة للبشرية تخيلي نفسك تتكلمين ؟!! " بمرور الاشهر اصبح جاد تقريبا يجيد لغة الاشارة , وذات يوم تلقى رسالة منها كتب فيها
" صديقي جاد اعرف انك لاتحب ان تقاطع اثناء انشغالك بعملك الفني لكني لدي خبر سار للغاية اريد ان أطلعك عليه لذلك ارجو ان تلاقيني في مقهانا المعتاد بعد نصف ساعة من الان من فضلك "
صرخ جاد غاضبا بعد قراته لرسالتها واخذ يلوم نفسه لادخالها لدائرة حياته تلك الصماء الثرثارة الغير منظمة الجاهلة بالفن ومع هذا تحشر انفها برسوماته وختيارات الوانه . ومع هذا التملل ذهب جاد للقائها
انتظر جاد في المقهى على مايزيد الخمسة عشر دقيقة واستير لم تظهر قال في نفسه ومالجديد هذه عاداتك يااستير عدم احترام المواعيد . وبعد عشرين دقيقة جاءت وجلست بشكل مسرع وعندما حاولت ان تبرر سبب تاخرها قاطعها جاد وهو يستخدم لغة الاشارة

" فقط اخبريني الخبر .. انا على عجلة من امري "
" لقد قبلت " كانت السعادة والحماسة تفيضان منها, رد عليها
"قبلت بماذا "
" برودواى .. ويرغبون بحضوري على عجل كي اشارك بالتمارين .. سااسافر لنيويورك بعد غدا صباحا .. تمنى لي التوفيق "
" اخيرا .. سااعود لنظامي السابق والهدوء يعم مرسمي .. انا سعيد لاجلك كثيرا استير .. انت راقصة ماهرة وتستحقين التواجد هناك .. انتظر دعوتك لي في اول عرض لك "
"حقا هل ستاتي؟ "
"بالطبع "
                                    .....................................

وسافرت استير لنيويورك وبالرغم من بعد المسافة وانشغال كلاهما بتحقيق حلمه استمروا على تواصل دائم مع بعضهم , كان احدهم يساند الاخر ويبث في نفسه العزيمة والاصرار متى ما تملكه اليأس والتعب
وبعد ستة شهور من التدريبات حان موعد العرض الاول ل استير وكان جاد من ضمن الحاضرين ليشهدو على معجزة الفن الصماء البكماء استير وهي ترقص برشاقة على اهم واكبر مسارح العالم
وبعد انتهاء العرض ذهب جاد ليقدم لها التهاني على عرضها الناجح والمبهر حاملا بيده باقة ورود كبيرة مزينة بباقة كتب عليها الى "صديقتي الثرثارة استير "
عانقته ثم نظرت اليه وبدأت بلومه بأشارات يديها الرشيقتين قائلة
"صحيح انك قبضت مبلغ ضخم للغاية من بيعك لوحة غزال في شوارع طوكيو لكني مستاءة"
ضحك جاد وقال لها بلغتها
" صحيح اني تخليت عن غزال طوكيو لكني مستعد للمحاربة وتغير عالمي ومكان سكني والسفر عابرا المحيطات لاجل عيون غزال قبرص "
نظرت اليه استير باستغراب كانها لم تفهم الى مايريد ان يشير اليه , عندها انحى جاد وجلس على ركبته واخرج خاتم ماسي من جيبه واخذ يتكلم
" استير ياصديقتي ومحبوتي هل تقبلين الزواج مني ؟" دمعت عيناه ثم تذكر انها صماء وبكماء فاحمر وجهه واصبح ضائعا بين الخاتم الذي بيده وبين محاولته التكلم بلغة الاشارة التي على مايبدو انه نسيها تماما

علت ضحكات الراقصين المتواجدين هناك , عندها استير اشارت رأسها بالموافقة وارتدت الخاتم وتعانقا وسط تصفيقات زملائها الراقصين

شكرا لك ابو احمد عالموضوع
تسلم ايدك ويعطيك الف عافيه
تقبل مروري وتحياتي

كل التقدير والاحترام لك اخي العراب
على حضورك ومتابعتك الدائمة
دمت بكل الود