احلام مهندسة

صراخ ..صراخ ..صراخ...
صراخ مزق غشاء الظلمة الرابضة على الحي ..عندما كنت أصارع ليلي الباهت و أنا أجوب دروب النت المقفرة، سمعت هذا الصراخ القاهر
في البدء انتابني شعور بالخوف ، أتراها تتعرض هذه الشقية لاغتصاب أم لمداهمات ليلية ؟.. تساءلت ..
استمر الصراخ مدويا من أعماق الزقاق المظلم في الحي..
في هدوء وقفت قبالة النافذة لأستكشف الأمر ..كانت المفاجأة كبيرة عندما أدركت أن صاحبة هذا الصراخ هي المهندسة كوثر
كوثر شابة تألقت في دراستها و تربيتها ..فخمنت أن الفضل يعود لذاك الشيخ الهرم ذو اللحية البيضاء ، الذي كانت تبدو عليه ملامح الوقار ..ففي الحي الكل يحترمه
الكل يرى فيه القدوة و الأب الروحي ..كان لا يقبل لابنته أن تتهاون في دراستها و لا يقبل لها لباسا من غير الحجاب ..
بل حرمها الوقوف مع أي كان حتى مع بنات حيها .
ابتسم لي الحظ..حين جاءتني كوثر ذاك الصباح و نحن في طريقنا الى المدرسة لتبشرني أني الوحيدة التي نالت إعجاب و قبول و استحسان والدها بمعاشرتي ..
فكانت بشارة دفعتني لتزداد صداقتنا متانة لا توصف ..في الحي كانت توأمي و كنت روحها التي بها تتنفس كل صغيرة و كبيرة..كنا لا نفترق في أغلب الأوقات ..
تألقت كوثر و كانت مثالا للطهر و الأنفة و العفة ..لكن تفوقها الدراسي و مغادرتها للبلدة قصد استكمال دراستها في المعهد العالي للإحصاء جعلنا نفترق ..
بقيت الرسائل المتنفس الوحيد لعلاقتنا و لجمع شملنا ..و بعد إتمام دراستها العليا بنجاح خرجت لسوق الشغل تبحث عن عمل ..
لكن يبدو أن أبواب الشغل موصدة أمامها مما زاد من أزمتها..
في آخر حديث دار بيننا و هي تبحث عن مصيرها المفقود كلمتني عن أحد أساتذتها الجامعيين و كيف أُعجب بها ..
و هو الآن يدور في فلكها و يحاول التعرف عليها ..
صراخ ..صراخ ..صراخ ...
صراخها الآن يزداد حدة ليخرجني من ذكريات الأمس القريب ..أي مصيبة حلت بهذه العائلة المحترمة ؟ تساءلت مجددا .
خرجت من غرفتي دون أن أثير انتباه أحد ..كان القمر قد أطل على الكون بحلته البهية ..و بضوئه المنير لوجه الوجود ..
فبدأ حال الزقاق يتكشف شيئا فشيئا ..و جموع الناس تزداد تجمهرا ..و المهندسة يعلو صراخها فتتفتح أشداق الليل و الدروب..
دروب للأحزان و أخرى للشباب الذي التهمته أزمنة البطالة ..و حيرة المستقبل الرمادي ..
على امتداد هذا المدى لحظة غائرة في ومض الظلام ..و أنا أسأل نفسي و لا مجيب .. هناك حيث ممرات ضيقة و أزقة هدها الضجيج و زمن يحبو نحو عيون الفراغ ..
سمعت أحدهم يقول : توقفي من هذا الصراخ يا بهية .. كل ما تحتاجينه ذراع رجل قوي حتى يأتيك شيطان الشهوة راكضا في عينيه..
انفعلت عند سماعي هذا الكلام الساقط من أناس حسبتهم جاؤوا للنجدة أو المساعدة .. تسللت خلسة الى بيت كوثر ، كانت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة
و أفراد عائلتها يهدئون من روعها ..ما أن رأتني حتى انسابت نحوي .. احتضنتها و دموعي تنساب من غير شعور ..
تعانقنا عناق الغرباء و حاولت أن أضمها الى صدري بقوة لعلي أسكتها من هذا الصراخ الذي لم ينقطع لأكثر من ساعتين ..
- ما بك حبيبتي ؟ توقفي من هذا الصراخ ..
- أوقفوهم.. تصيح كوثر ، إنهم يريدون قتلي..
– من هم حبيبتي ؟
- تصرخ : هاهم يحملون الينا تباشر الدمار ..قد يكون المخزن وراء أفعالهم الدنيئة ..إنهم السياسيون و دهاة الأحزاب
و الأساتذة الخونة و المفكرون الذين يبحثون في مزابل التاريخ ..هاهم يودون إطفاء آخر شمعة من شموع عمري ...
اندهشت لكلامها هذا ..فعاودت كوثر صراخها كذوي رعد و هو يخترق جدار الصمت لهذا الحي المنكوب هنا بين أحزمة البؤس ..
هنا شارع طويل من الصراخ و أم كوثر تبكي ملتاعة و منقبضة القلب، تنهش وجهها بأظافرها و تصرخ في قرارة نفسها صرخة تثقب الجدران و القلوب ..
هنيهة تصل سيارة الإسعاف لتحملها الى مستعجلات مشفى الأمراض العقلية و النفسية ..نزولا عند رغبتها صاحبتها لوحدي الى المشفى ..
و تركنا الحي يتهامس ليله بأساطير و خرافات.. في الطريق، تلك الأسوار العالية بأبوابها المقفلة كأنها حواجز تقتل كل أمل آت من هناك..
أحسست بأن الزمن دار دورته . و أنا أتساءل عن مصير مهندسة سكنت وجداني هي و عائلتها .. كيف لي أن أبدأ من حيث بدأت يوما؟ .
كيف لي أن أفتش عن حقيقة أحوالها ؟ كنت هنا و أمها و بقايا صبر في الأعماق ،قلت في نفسي هذا حظ عاثر و زمن باهت ..
و خمنت أن هناك قشة حب تعلق بها قلبها أو ثمة رزنامة قضايا تحبو على رمال هذا الشاطئ لبحر هذا العمر الضائع ..
كنت أتخبط بين أمواج عتمات اللحظة عندما تجدد صراخها بقوة ..فنطت نحو باب سيارة الإسعاف و كأنها تريد الفرار من قدر محتوم ..
احتضنتها بقوة من جديد..أبكاني حال المهندسة و زادني حال أمها وجعا و دمعا .. همست في أذنها ما بك حبيبتي ؟
ممكن أن تبوحي في حضرتي حتى نعرف الطريق ؟ أنت أختي أنت حبيبتي أنت بالنسبة لي كل شيء في هذا الوجود ..
إمنحيني قلبك كما منحتيه لي يوم اللقاء الأول حين اختارني أبوك صديقة عمرك ..تكلمي قولي شيئا و لا تتركي قلب أمك يحترق و قلبي ..
قالت بعد أن سحبت نفسا طويلا و انهارت بين ذراعي.. زهرة أعرف أنك أنت الهواء الذي أتنفس أعرف أننا أكثر من أختين بل توأمتين جاءتا من رحيمين مختلفين ..
ألازلت تذكرين الأستاذ الذي كلمتك عنه فيما مضى عندما تخرجت من المعهد ..لقد وعدني بالزواج ..
لن أخفيك حين يتكلم ترتج تربة قلبي فتزيد سرعة النبض في صدري..أحبني بجنون و أحببته بشكل رهيب ..
من كان يصدق أن كوثر هذه التي تكلمك استطاعت و لو للحظة أن تقف سدا منيعا أمام رغبات أستاذها و أمام نظراته العاتية التي تشق جبال القلب
كأنها نسمات حياة بأكملها ..لقد سلمته نفسي جملة و تفصيلا ..فوعدني بالزواج ..قال لي الشغل في يده كالخاتم في أصبعه ..
هو صاحب علم و شركات و ذو جاه و أموال طائلة و عليه فقط أن يأمر ..قال لي كلاما كثيرا ..خصوصا لما نختلي فتفيض قريحته بأشعار عذبة كأزهار الربيع ..
و أنا المتعطشة الى مذاق الحياة التي صمت لأجلها زمنا طويلا ، أجدني فجأة في حياة السعادة و المتعة و الفرح و الترفيه ..
عشنا ليال كلها متع و تخطيط لمستقبل زواجنا ..آه كم حلمت بغرفة للنوم و بطفل يكون بطلا للتحرير ..كم حلمت أن تكون لي طفلة تشبهني كما كنت تحت جناح والدي..
كم حلمت أن أكون زوجة ذاك الوسيم الذي برع في كل مجالات الحياة ..حتى في السياسة كان يحسب له ألف حساب ..
في حزبه هو المقرر و هو المرشد و هو الناهي ..حين يتكلم تجحظ عيون الحضور و تشرئب له الأعناق ..
غالبا ماكانت تختتم محاضراته أو مداخلاته بتصفيقات حارة للحضور ..و بإعجاب و اندهاش لمتتبعي ندواته و مداخلاته ..
نعم أختي سقطت كعصفور في قفص للمأساة ظننته ذهبي ظننت أنه جنتي في الدنيا ..
لكن ما هزني البارحة هي رصاصته التي أطلقها على براءتي من خلال رسالته الأخيرة ...

اندهشت لكلامها و هي تحكي و لم أتصور أن تسقط هذا السقوط المدوي ..حين وصلت سيارة الإسعاف الى المشفى ..أخذونا الى قاعة خاصة للفحص ..
بدأت على وجه السرعة الفحوصات اللازمة ..بعد حوار قصير بين الطبيبة و المهندسة بدا للحكيمة أن المهندسة عاشت صدمة قوية أوصلتها الى هذا الصراخ الذي لم ينقطع..
طلبت منها إجراء بعض التحاليل ..و في الحين تم ذلك ..كانت المهندسة قد غفت بعد حقنها بحقنة للإسترخاء.. أخذتُ نتيجة التحاليل و أعدتُها الى الطبيبة ..
أثناء اطلاعها على النتيجة قالت : الحمدلله كل التحاليل على أحسن ما يرام ..إلا واحدة ..كيف يا دكتورة تساءلت ؟ قالت مبروك صديقتك حامل

هلا بالعراب
احلام مهندسة 9k=

دمت بكل الود

» مهندسة فلسطينية تستخدم المجسمات الحجرية لتوثيق تاريخ مدينة نابلس
» اضغاث احلام
» اضغاث احلام
» احلام اليقظة
» احلام قمة الجمال