ظلام شديد يكسره ضوء القمر الفضي في السماء ، صمت رهيب في المنزل تزعزعه بعض صرخات جدتي المريضة مما يثير في نفسي ألما عميقا فتلك السيدة ليست مجرد جدة فهي أكثر من ذلك أكثر حتى من أن أقول عنها أم ، تلوج في خاطري أماني كثيرة ، ولعل أكبرها أن يزول الألم الخبيث من جسد جدتي الهزيل ، فهو لم يعد يقوى على تحمل حتى وخزة إبرة ، مثلما لم أعد أقوى أنا أيضا على مقاومة مخاوفي من فقدان جدتي ، تتوقف تلك الأفكار الخبيثة فجأة فيُزرع في قلبي إحساس جميل ، فجدتي لن تفارقني مهما حدث ، تتغير ملامح وجهي بابتسامة أمل ، ويعلو صوت أذان الفجر في كل مساجد المدينة ، تستجمع قواها المتعبة من شدة الألم الخبيث فتنادي باسمي بصوتها الحنين ، أمر طبيعي فهي تعلم دائما أنني الوحيد المعتاد على السهر ليلا ظمانا لسلامتها ، أسرع إليها وأستفسر منها تطلب مني أن أناولها حجر التيمم ورداءها الأبيض الذي لازلت أحتفظ به لحد الآن ، فأفعل ، ثم أساعدها على تعديل وضعية جلوسها ، نعم فالألم الخبيث أنهك قوتها على الحركة ، أساعدها على الجلوس ، وبعد انتهائها من الصلاة أتجاذب أطراف الحديث معها وكعادتها رغم الألم الخبيث الضحكة لا تغيب من محياها وحكاياتها الهزلية تشعرني برغبة في الضحك بصوت عالي ، عجباً كيف لها أن تضحك رغم الألم الخبيث الذي يسري في كامل جسدها النحيف ، نستمر في حديثنا الى أن ترمي الشمس بأولى خيوطها على الأرض ، يذب التعب الى جسمي فتأذن لي بالذهاب للنوم . تتوالى الأيام ولا يزال جسد جدتي يقاوم رغم أن الأمر ازداد سوءاً ، فقد أصبح وجهها شاحباً بشكل غير مألوف ، ولا يكاد أحد يفهم شيئا من كلامها ، غدا موعد زيارتها للمشفى ولعل الطبيب وحده من يعلم سر هذه الأعراض الغريبة ...!! استيقظت صباحا أفرد جسدي على فراشي وعيناي معلقتان بسقف الغرفة ، نظرت إلى الساعة فوجدتها تقترب من الثامنة صباحا ، استدرت الى جانبي الأيسر وتقاذفت في داخلي أفكار كالأمواج المتلاطمة ، إنها الأن في المشفى ، شعرت برغبة في عناقها بقوة ، وتساءلت بداخلي كيف حالها الأن ؟ استفقت من شرودي على صوت رنين هاتفي ، طُلب مني الحضور حالا ، في الطريق للمشفى نظرت للشوارع رأيتها مختلفة عن ذي قبل ، عند وصولي توجهت بخطى سريعة الى مكان تواجد جدتي ، تأملت الناس من حولي ، أدرت نظري الى الجانب الاخر فرأيتها على سريرها ، أسرعت نحوها ، لم تقوى على الحديث معي فقط بحركات من يديها عجزت عن فهما ، لم أعتد عليها هكذا ، تسارعت نبضات قلبي فالأمر مختلف جدا اليوم ، أهمس في أذنها بأن تقوم بشيء إن كانت تسمع وتفهم كلامي فأحس بقبضتها تشتد على يدي ، أطمأن أنها لا زالت بخير ، أذن لنا الطبيب بإرجاعها ، تصل السيارة الى المنزل وأصر أن يوضع رأس جدتي بين أحضاني ، استمر الأمر هكذا لساعات لم أشعر خلالها بأي تعب ، أهمس في أذنها مرة أخرى لتفعل كما طلبت منها سابقا ولكن هذه المرة لا حركة ، أتلو عليها آيات من القرآن لعله يكون راحة لها ، انتبهت فجأة لصوت يقول : لقد توفيت جدتك !! لمعت عيناي بدموع أبيت أن أذرفها ، قبلت جبين جدتي ، استجمعت قواي فهي لم تمت إنها فقط نائمة وستستيقظ بعد قليل ، مر الوقت سريعا تذكرت طفولتي مع جدتي ، مواقفها ، كلامها ، ضحكتها ، صوتها ، شعرت برغبة في البكاء ودمعت عيناي بدموع عجزت عن إيقافها ، بكيت بحرقة أدركت حينها أن جدتي حقا غادرت بدون عودة.