تتنهد بعمق و هي تطل من على شرفة منزلها المقابل للسوق الشعبي ، ترقب في اضطراب ساعتها اليدوية بين الفينة و الأخرى دون أن تفقد تركيزها على طول الشارع الرئيسي متفحصة كل سيارة قادمة من ذاك الاتجاه . يدها اليمنى لا تتوقف عن مداعبة جوانب بطنها المنتفخ ، فقد صارت حركات الجنين و أطرافه بارزة و واضحة المعالم . هو أمر تأنس به و يخفف عنها شيئا ما من الضغط و الخوف على أبيه كلما اقترب موعد عودته من العمل كسائق تاكسي في مدينة صار أهلها يقتل بعضهم بعضا .
يدب الخوف في أوصالها حين تكتشف أنه تجاوز موعده بنصف ساعة ، يرن هاتفها الخلوي فتنتفض مذعورة ، تسحبه على عجل من الحقيبة .
- حبيبتي آسف سأتأخر اليوم أيضا تناولي العشاء و نامي لا تنتظريني .
- سأنتظرك يا عمر ...
- لا تفعلي ، ذاك يضر بصحتك و صحة الجنين .
ينقطع الخط ، تعود لذات الوساوس .
- عد سالما بإذن الله .
تحدث نفسها بصوت خفيضٍ .
تأخذها إغفاءة فتستسلم للنوم .
تستيقظ مذعورة على صوت المنبه ، الساعة الثامنة صباحا و لم يعد عمر ، تتيبس أطرافها و ترتعد يداها و هي تركب رقم هاتفه الذي لم يرد ، تكرر المحاولة مرة ثم مرتين ، عشر مرات و لا فائدة ، تتحجر الدموع في مقلتيها .
- يا إلهي ، أينك يا عمر ؟؟؟
....
يفتح عينيه بصعوبة ، آثار اللكمات و أعقاب البنادق أدمت جسده النحيف حتى تحولت ملابسه الممزقة إلى لون أحمر قاني ، ثمة طعنة سكين في ظهره بدت عميقة من الألم الشديد الذي سببته له و هو يحاول النهوض أو مجرد الالتفاف للظفر بوضع أقل إيلاما . حين استدار جالسا وجد نفسه وسط أكوام من الجثث و الأجساد الممزقة ، بعضها لازال يشي ببعض حياة من نفس أو تأوهات مكتومة ، و بعضها انقطعت صلته بها حد التحلل . كانت الرائحة الكريهة مقززة ، لكنه تحامل على نفسه يبغي الوقوف لولا أن اقتحم المكان رجلان تفرس في ملامحهما مليا ، هما نفسهما الذان أوقفاه ليلا على الحاجز الجنوبي ، قبل أن يقتاداه رفقة بعض الركاب إلى ضفة النهر و ينهالا عليه ضربا و طعنا بما لديهما من أسلحة ، لا يذكر شيئا بعدها غير جملة كررها أحد المعتديين .
- عمر !!! أقلت عمر ؟؟؟ ألم يجد أبوك الوسخ غير هذا الإسم العفن ؟
فقد وعيه بعدها حتى الصباح .
يتنقل أحد الرجلين بين الجثث يقلبها ، يصيح الآخر في الجهة المقابلة :
- لازال أحدهم حيا .
- أجهز عليه ؟
- نعم و بسرعة .
يختفي ذو الشاربين الملتفين ثم يعود حاملا بندقية كلاشنيكوف ، يفرغها في رأس عمر .
- اذهب إلى الجحيم .
....
وسط أجواء من البكاء و النحيب تفتح شيماء صندوق الموتى تطل على وجهه المشرق ، تقبله بين عينيه ، تعانقه ، تشتم عطره للمرة الأخيرة .
- ما أطيبك حيا و ميتا يا عمر .
تبكيه بحرقة ، تغمض عينيها الملتهبتين فتضعف الأصوات من حولها شيئا فشيئا .
......
آلام شديدة تقطع أمعاءها هو ما قطع عليها نومتها الهنيئة ، يبدو أنها أفرطت في النوم هذه الليلة . تحاول الاستدارة إلى الجهة الأخرى لكن الأنبوب المغروز في شريان يدها يمنعها من الحركة ، ترتعد حين تدرك أنها في المشفى ، يد حانية تمتد إليها بلطف لتهدئ من روعها .
- مبارك لك ، أنا الدكتورة فاطمة الزهراء ، لقد وضعت توأمين ذكرين .
- حقا .
- و جميلين أيضا ، ماذا تسميهما ؟
- سأسميهما باسمين عزيزين علي و على زوجي رحمه الله ، تماما كما اتفقنا . سأسمي أحدهما علي و الآخر أبو بكر .