متسكع المقهى
على مقهى حيينا ,,, وعلى كرسيها القرمزي اللون ,,, يرمي جسده ذاك المتسكع ذو العيون البارزة تراقب الناس غدوة وعشية ,,, يحمل في يده جريدة اليوم ,,, يرمقها بنظرة سريعة ,,, ومن ثم يعود لمراقبة الناس .... حتى أن عمال القهوة ملوا منه وتأففوا من طلباته ,,, فهو يطلب في اليوم قدحين من الشاي ,,, يشربهما في بطئ شديد .,.,,.ولا يهمه سخونة القدح أو برودها ,,, فدمه بارد مثلها ,,كنت أمر قرب تلك القهوة كل يوم وأراه متسمرا فيها ,,, مواظبا كتلميذ المدرسة ,,,,
إلى أن أتى ذاك اليوم ,,, الذي خرجت من بيتي مبكرا ,,, قاصدا ربا كريم ,,,داعيا بالسلامة لأهل بيتي في غيابي ,,, قارئا لهم أيات الحفظ والستر ,,,, وهو ورد أتلوه كل يوم في الطريق ما بين بيتي ودكاني ... وبعد انحداري بين أروقة حيينا ... لمحت خيالا يمشي خلفي ,,, لا بل يتابعني ,,, التفت إليه ,,لأعرف هوية متابعي ذاك ,,, وإذا هو ذاك الرجل الذي يجلس في المقهى نفسه ... توقفت قاصدا ... عله يسبقني الخطى ,,, ولكنه فاجأني ,,,
- يا عم أرجوك ,,,, أريد الحديث معك ,,,
رغم استغرابي الشديد ... أشرت له بالموافقة ,,, فأشار لي بأن نذهب للمقهى للحديث هناك ,,, ورغم أنني لم أدخل المقهى سوى مرة او مرتين في أيام الصبا ,,, لأنني لا أحب الجلوس في المقاهي وشرب الدخان او المشروبات وأفضل الجلوس على ضفة نهر وأتأمل ماخلق الله سبحانه من طبيعة غناء مع كأس شاي تعادل الدنيا وما فيها ,,,,
المهم أن فضولي قادني لمعرفة ما يريده ذاك المتسكع ولو على حساب قناعاتي البالية في هذه الأيام ,,,,
جلسنا ... على طاولته المعهودة ,,, وقبل أن أنبس ببنت شفة ,,, قال لي وبصوته العريض مازحا (( ما بتضيفنا كأس شاي على حسابك ))
طبعا خجلا ,,, ابتسمت ,,, وطلبت له كأس شاي ... كنت أريد الوصول إلى النتيجة وهي معرفة ما يريده مني ذاك ثقيل الدم ,,,
وبدأ حديثه ,,, فاتحا ومغلقا ثغره الذي أشم منه كافة الروائح العفنة من تسوس أسنان ونفسه المخلوط برائحة الدخان الكريهة ,,,
بدأ الحديث عن حياته التي عانى فيها من الفقر المدقع .. والبرد الشديد ,.,, ورثة الثياب ,,, والعمل عند الناس ... حتى توفي والده ,,, وهنا فتحت له طاقة القدر ,,, و ورث عن أبيه مالا لا تـأكله النيران والحمد لله ,,, وأن جميع أمواله وضعها في بناء للتأجير الشقق اليومية ,,, وهي تكسب الكثير كل يوم ... وأن شققه يستأجرها السياح ويدفعون الكثير والحمد لله ,.,, لذلك منذ خمسة عشرة عام هو لا يعمل ,,, وينتظر رأس الشهر ليقبض المبالغ المرقومة من تلك الايجارات ...
كنت أسمع له وانتظر الكلمة التي توصلني إلى لب الموضوع بعد تلك المقدمات التي لا تعنيني ,,, وفجأة ودون سابق إنذار ,,, أوصلني إلى ماأريد ,,,
بأنه فكر كثيرا قبل أن يخطو هذه الخطوة ’’’ولكن أتى وقتها ... وهو يريد أن يكمل دينه ويتزوج ,,,,
وقد شاهد ابنتي تمر عائدة من مدرستها ,,, فأعجبته ,,, فسأل عن أهلها ,,, فأشار الناس إليه بأنها ابنتي ,,, فأحب ان يطلب يدها مني ,,,
وهنا سكت منتظرا جوابي ,,,,
هنا نظرت إليه نظرة لو فهمها لشق الجبل ودخل به ,,, ولكن أمثال ذاك لا يفهمون بالنظرات ,,, بل أنهم يحتاجون إلى العابرات على رؤوسهم ,,, ولكني تملكت نفسي ,,, واتزنت لرجل مثلي في الخمسين من عمره ,,, وقلت له ,,,
اعتذر منك أخطأت في العنوان ,,,, أنا لست والدها ,,,,
استغرب من جوابي ... وقال لي بسرعة ,,, ولكن أنا متأكد من معلوماتي ,, وقد شاهدتها معك ليلة البارحة ,.,, وانتما تذهبان للسوق لشراء الخضار ,,,
هنا ابتسمت ... وتوقفت ... وقلت له وظهري له ...
انا لست والد من تطلب ... ولكني والدها ... هي ليست أحجية .... فلا أتصور ان من يطلب ابنتي ...عمله الجلوس على القهوة ومراقبة الناس ,,, حتى ولو كان معه مال قارون ,,, ولم أتصور في حياتي ,,, ان يكون طالبها للزواج ذاك الرجل الذي يرى ويسمع عيوب الناس ويرقبها وذاك البخيل على نفسه قبل زوجته ...وإن أراد ان يصرف على نفسه وعليها فماله يجنيه من الشبهات .... لم أتوقع يوما أن يطلب يد أبنتي في مقهى ... وهي لها بيت أهل يدخله طالبها من بابه الواسع ,,,, وأخيرا ,,, لم أتوقع أن يطلب يد ابنتي وهي في ربيعها الثالث عشر ,,, وطالبها في عمر أبيها ,,,
وهنا مشيت قاصدا باب المقهى ,,, وسط المفاجأة البادية على وجه متسكع المقهى ,,,,
ومن يومها خسر المقهى ,,, أحد أكبر زبائنه ’’’’ ألا وهو متسكع المقهى ,’,,,