بركة السحور
إن الحمد لله، نحمَده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتدِ، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن مِن الواجب على المسلم أن يهتدي في عباداته كلها بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها الحكمة التي أرشد إليها أصحابَه رضي الله عنهم وربَّاهم عليها، وفي هذا الشهر الكريم أحكام وسُنن خاصة بالصيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمها أصحابه، منها ما هو مِن باب التيسير على الأمة ورفع الحرج عن المكلفين، ومنها ما هو مِن باب مخالفة المشركين واليهود والنصارى في عباداتهم؛ ليبقَى للمسلم تميزُه عن غيره مِن أهل الشرك، ومنها ما هو من باب التربية الأخلاقية والسلوكية؛ ليخرج المسلم مِن هذا الشهر وقد اكتسب فيه خُلقًا حميدًا، أو تخلَّص فيه مِن خُلقٍ ذميم، وإن مِن السنن والآداب التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم في الصيام: السحور.
كان المسلمون في أولِ تشريع الصيام في رمضان إذا جاء الليل يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا نام الصائم حَرُم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فكان هذا الأمر مما يشقُّ عليهم، وبقي الأمر على ذلك حتى وقعَتْ حادثة لأحد الصحابة، هو قيسُ بن صِرمة الأنصاريُّ، قد حكاها لنا الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صِرمةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ فأطلب لك، وكان يومَه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته، قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، ففرِحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187])[1].
فكانت هذه الحادثة تخفيفًا عن المسلمين؛ حيث أبيح لهم الأكلُ والشُّرب إلى الفجر الصادق، وهو وقتُ الأذان الثاني مِن الفجر،وكان من رحمة الله تعالى بالأمة - مع هذا التخفيف عنهم بإباحة الأكل والشرب بالليل - أن شرَع لها أيضًا استحبابَ أكلة السحر؛ فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تسحَّروا؛ فإن في السحور بركةً))[2].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن العلامةَ الفاصلة والعبادة الفارقة بين صيام هذه الأمة وصيام أهل الكتاب هي أَكلةُ السحور؛ فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصلُ ما بين صيامِنا وصيام أهل الكتاب: أَكلةُ السَّحَر))[3].
عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السَّحور أَكلةٌ بركةٌ؛ فلا تَدَعوه، ولو أن يجرَعَ أحدكم جَرعةً من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكتَه يصلون على المتسحرين))[4]، ومعنى صلاة الله على المتسحرين: مغفرتُه لهم، وعفوُه عنهم، وثناؤه عليهم، وصلاة الملائكة عليهم: استغفارُهم لهم.
ويحصُلُ السحور بأي شيء يتناوله المسلم مِن مأكول ومشروب، ولو لم يجد إلا جَرعةَ ماءٍ، فإنه ينوي التسحُّر بها، والله يبارك له فيها، وأفضل السحور التسحُّر على التمر؛ للحديث الصحيح: ((نِعمَ سَحورُ المؤمن التمرُ))[5]؛ رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان؛ فإن في التمر مِن القيمة الغذائية العالية ما يستغني به الصائمُ عن كثير مِن الأطعمة والأشربة، وهو خفيفٌ على المعدة، سهلُ الهضم.
ومِن السنَّة تأخير السحور إلى آخر وقت الليل؛ فإنه لم يكن يفصل بين أذان الفجر الصادق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سحوره إلا الزمن اليسير؛ كما روى ذلك البخاري ومسلم رحمهما الله، عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما، قال: (تسحَّرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية)[6]،قال النووي رحمه الله: (وفيه الحثُّ على تأخير السحور إلى قُبيل الفجر).
ويجوز له أن يأكل ويشرب إذا شك في طلوع الفجر حتى يغلِبَ على ظنه طلوعه؛ فاليقين لا يزول بالشك، فهو متيقن مِن إباحة الأكل والشرب؛ لأنه بليل، فلا ينتقل إلى تحريمهما إلا بتيقُّن دخول الفجر،ويجوز له أن يكمل شرابه ولقمته لو كان يأكل أو يشرب وقد سمع الأذان الثاني للفجر؛ لِما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يضَعْه حتى يقضيَ حاجتَه منه))[7].
أما البركة التي في السحور فقد عدَّد الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري طائفةً من المنافع والفوائد الحاصلة بالسحور فقال: (البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنَّة، ومخالفة أهل الكتاب، والتَّقَوِّي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخُلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على مَن يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذِّكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لِمَن أغفَلها قبل أن ينام)[8].
والحمد لله رب العالمين
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين