أكاد اجزم أنني لم أر يوما هذه السيدة إلا وابتسامة الرضا على محياها ...
في أحيان كثيرة كنت أتساءل عن سر السعادة والرضا التي تشعر به هذه المرأة ..دائما أردت أن اسألها إلا أن الحياء كان يمنعني في كل مرة ...إلى أن استجمعت قوتي وسألتها ...وليتني لم افعل ..لان ذلك سبب لكلينا الأسى والشجن ...
قالت : أنا يا ابنتي كما تعرفي غريبة عن هذا البلد جئت مهاجرة مع زوجي ......
لم اعرف يوما معني كلمة طفولة ..فقد أتيت إلى هذه الدنيا مخلوقا ...اقل ما يمكن نعته انه نحس ؟؟؟؟!!!
فيوم ولادتي ماتت أمي وتزوج أبي من امرأة أخرى ...لن اكرر لك القصة المملة لسندريلا مع زوجة أبيها ولكني أؤكد لك آن حياتي كانت أكثر بؤسا وشقاء من حياة هذه السندريلا ....
واستمرت الحياة ..فالحياة لا تتوقف مهما كنا نرفضها او نرفض واقعنا فيها ...
كانت أقصى أحلام طفولتي أن اذهب إلى المدرسة ككل أقراني ..فكنت أتخيل نفسي وأنا العب واجري في الفناء مع صويحباتي وأشعة الشمس تداعب ضفائري الذهبية ...وأحيانا كنت احلم في يقظتي بملامح أم حنون تداعب خصلاتي وتقبل وجنتي بحب ووجد ...
ومضت الأيام وأنا أجاهد آلامي وأحزاني بما أجده من لذة أحلامي ...
وتتابعت السنون وبلغت من العمر مبلغا يمكن أبي وزوجته من التخلص من عبئي وذلك برميي رخيصة إلى أول طالب للزواج ..فتزوجت عمك أبو محمود ..كنت وقتها شابة وجميلة رغم نوبات الربو التي أرهقتني ....وكنت صغيرة مقارنة مع عريسي الذي كان يكبرني بخمسة عشر سنة ...فتوقعت أن ذلك سيشفع لي عنده وساجد عنده الحب الذي لم احضى به يوما ...ولكن أحلامي تبددت عند عتبة بيتي الجديد ...فما وجدت من هذا الرجل إلا كل قسوة وجفوة ..ولكن الحمد لله على كل شيء ....قالتها وابتسمت ابتسامتها المعهودة ...!!!!
توقفت دقائق لتحكم رباط ثوبها وأنا كلي شغف وترقب لمتابعة هذه القصة المثيرة ...
أكملت : على الأقل أنا الآن في بيتي ومملكتي ..ومما زاد من راحتي هو أن زوجي كان يغيب اغلب أوقات النهار ...ففي الصباح يذهب الى عمله ولا يرجع الا بعد الظهر ..يتناول غداءه ثم يغفو فترة القيلولة ..وعندما يستيقظ يشرب فنجانا من القهوة ويأخذ نفس (ارجيلة ) ويخرج بعدها للقاء الأصدقاء ولا يعود إلا بعد منتصف الليل ...تعودت على حياتي الجديدة ...بل أنست بها ولم يكن يعكر صفوها إلا هذه الوحدة القاتلة التي كنت اشعر بها ...
إلى أن شعرت بعد فترة بما تشعر به النساء من أعراض الوحم ...وتوقعت أنني عندما اخبره بهذا النبأ ...سيرقص من السعادة وسيقبلني ويقول لي اطلبي وتمني ...ولو لبن العصفور ...؟؟؟!!
ولكن كل ذلك لم يحدث وإنما اكتفى بقوله ...مبروك ...هكذا جاءت باردة كأنسام الشتاء ..قاسية كرجمة حجر ..
بعد فترة جاء محمود ليملأ حياتي بهجة وحبور ..جاء ليكون مصرفا صحيا لكل مشاعر الحب والحنان المكبوتة في داخلي ...
ثم جاء بعده علي وخالد وفارس واحمد ...
وفي يوم لا اذكره ...لان كل الأيام متشابهة في نظري ...أمرني أبا محمود أن الملم إغراضي وإغراض أبنائي لنسافر إلى بلد عربي بعيد ...لان ابن عمه وجد له فرصة عمل جيدة هناك ..وطبعا لم يكن عندي أي مجال للمناقشة أو الاحتجاج ...وجئنا يا ابنتي إلى هذا البلد ...ولم اشعر فيه حقيقة بالغربة ...لان الوضع كان مشابها لما كان عليه في بلدي ...ففي الحالتين لا اخرج أبدا من البيت ...وهنا ولدت ابنتاي منى وملاك ...
وحشدت كل طاقاتي وجهدي لتربية أبنائي ..وتعليمهم وكنت أحاول ألا أطيل التفكير في حياتي وما يجري فيها ...خاصة أن أبو محمود خلال تلك الفترة تعلم آفة جديدة ..وهي شرب الخمر ...فكان يأتي أخر الليل مخمورا كريه الوجه والرائحة ...وكنت اهرب من واقعي بالمزيد والمزيد من الأحلام ...فلم تكن يوما لتفارقني أحلام اليقظة فهي ما كان يهون على هذا الواقع المؤلم ....فعندما كان يأتي أبو محمود ثملا ورائحة عطر نسائي رخيص تفوح منه ...واحمر شفاه فاقع يلطخ سترته ....كنت أتخيل نفسي في وادي اخضر كبير وتحيط بي أشجار الصنوبر والزيتون من كل جهة ..ونهرا صافيا رقراقا يجري في وسطه ومن حوله تناثرت إزهار النرجس والنسرين ...وكنت اسمع زقزقة العصافير تملأ أذني وكأني موجودة حقا في تلك الجنان ...
وعندما كان يضربني بقسوة ...أتخيل أنها أمواج البحر تداعب وجهي بسلام وأنا أواصل الاستمتاع بالسباحة ..واقسم إني فعلا كنت أشم نسيم البحر العليل ...فابتسم ...فيزداد الرجل غيظا من هذه الابتسامة ...ويزداد قسوة وعنفا ...المسكين ..لا يستطيع أن يفهم إنني في عالم أخر غير العالم ...
وقطعت أمينة كلامها بنوبة سعال حادة ..ولكني لاحظت أنها كانت أكثر مني لهفة على سرد باقي القصة ...
قالت :واستمرت الحياة ...فكما سبق أن قلت ...هي لا تتوقف أبدا لأي سبب..وكبر الأولاد وتزوجوا وانتشروا في هذه الحياة ..وذهب عمك أبو محمود إلي بلدنا ليتزوج من فتاة صغيرة يسترد معها شبابه الضائع ..
وبقيت وحيدة كما كنت ...وكما خلقت ..ولم يكن يخفف من وحدتي إلا هذه السويعات التي اقضيها مع أمك ...هذه الجارة التي انعم الله بها علي لتعوضني عن غربة البلد ..وغربة النفس ...
هنا توقفت عن الكلام وأجهشت ببكاء حار ومؤلم ....وأخذت بعضها وانسحبت بهدوء إلى بيتها ...
بت ليلتي وأنا أؤنب نفسي على نبش جراح هذه العجوز وألومها على ما سببته لها من الم ومرارة الذكرى ...
في الصباح ....نهضت فزعة على صوت نحيب وعويل أمي ...نظرت بتساؤل مشوب بالخوف ...
قالت ...البقاء لله ...رحم الله جارتنا أمينة .