:
هذا الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا الخلط أمره إلى الله عزَّ وجل، ليتها لم تزنِ ولم تتصدق، يعني مثلاً ليتك لم تنفق ولم تمنَّ على هذا الذي أنفقت، إذا أنفقت ينبغي أن تكتم، هناك قاعدة عامة: " إذا عملت عملاً صالحاً ينبغي أن تصمت، وأن تحتسب هذا العمل لله "، أما الحديث: أعطيته، منحته، وهبته، فضلت عليه، لولاي ما صار رجلاً يؤبه له، لا، سيصير رجلاً من دونك، كلام فارغ يقوله معظم الناس، لحم أكتافه من خيري ـ مثلاً ـ ما هذا الكلام؟!! كلامٌ فيه بعدٌ عن الله عزَّ وجل..
﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾
عن هذا المتصدق وصدقته..
على منِّه وأذاه، فالله عزَّ وجل حليم عن معاصي العباد، غنيٌ عن صدقة هذا المتصدق..
﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾
[ سورة محمد: 38 ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾
فالصدقة تبطل بالمنِّ والأذى، تنعدم قيمتها، لا يقبلها الله عزَّ وجل، قال بعض العلماء: لا يكتبها مَلَكُ الحسنات إذا كان معها مَنّ وأذى.
المنُّ يُوصل إلى الأذى :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾
أي أن المن يوصل إلى الأذى، مننت عليه مرة، وثانية، وثالثة، ورابعة فخرج من جلده وقال: لقد آذيتني بهذا المن، أو أن بعض العلماء يقول: المنُّ أن تذكره بعملك الطيب، ثم تقسو عليه في الكلام: ما شكرتني!! ما أعلنت ذلك أمام الناس، ما بيَّنت، ما نوَّهت، فتقسو عليه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾
هذا الرياء، أي إذا كان جمهور من الناس يرونه وهو ينفق ماله، واللهِ سمعت عن رجل أمام الجمهور ينفق مئات الألوف، أما أقرباؤه الأدنون فهم في أمسِّ الحاجة إلى المال ولا ينفق عليهم شيئاً، فأقرباؤه إذا أنفق عليهم لا يعلم أحد بهذا الإنفاق، أما إذا كان بحفل كبير وصار تبرُّعات فهو ينفق مئة ألف، بل مليون، مرة سمعت باحتفال لجمع تبرعات أن أحدهم أسمع ووعد بملايين، ثم لم يدفع شيئاً، فهو قال هذا بلسانه ولم يصدق هذا بعمله..
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾
لماذا راءى؟
﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾
لو آمن بالله واليوم الآخر لما احتاج إلى أن يرائي الناس، ولما احتاج إلى أن يظهر عمله الصالح أمامهم، ولما احتاج إلى أن ينتزع إعجابهم، ولما احتاج إلى أن يذكِّرهم بعمله كي يثنوا عليه أكثر وأكثر.
إذا أنفقت من مالِك ولم تشعر بسعادةٍ معنى ذلك أن الإخلاص ضعيفًٌ :
قال تعالى:
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾
أي حجر أملس عليه تراب، هذا التراب هو العمل الصالح..
﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾
جاء مطرٌ غزير، فأزال التراب عن هذا الحجر، فرجع الحجر صلباً أملس لا تراب عليه..
﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
هذه الآية تنقلنا إلى حقيقةٍ دقيقة: أنك إذا عملت الصالحات، ثم عملت الصالحات، وأنفقت من مالِك، وخدمت الناس، ولم تشعر بسعادةٍ إطلاقاً، فمعنى ذلك أن الإخلاص ضعيفٌ جداً، وأنك تبتغي بهذا إرضاء الناس، وكسب ثنائهم، أما إذا أردت الله عزَّ وجل، لا تحتاج إلى كل هذا.
من لم يحقق لنفسه شيئاً من مرضاة الله فهو بعيد عن الإيمان بالله :
قال تعالى:
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾
حجر..
﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾
مطرٌ..
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾
أملس..
﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾
أي لا يقدرون على شيءٍ من الإقبال على الله مما كسبوا من معاصٍ لأنهم منافقون، بمعنى آخر: لم يحققوا لأنفسهم شيئاً من مرضاة الله تعالى لأنهم بعيدون عن الإيمان بالله، الإيمان الذي يحملك على الإخلاص له..
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
تفسير راتب النابلسي