كعادتها منذ أن خرّب بيتها لم تعد تنام من ليالي الشتاء الطويلة إلا جزءا يسيرا. تتقلب في فراشها على جنبها الأيمن فالأيسر مرات ومرات فيكحل النعاس عينيها ساعة اوساعتين ثم يهجرها النوم لكأنه يشمت بها اويختبر مدى صدق صبرها على ما قدره لها ربها. هي تعلم أن جراحها النازفة أكبر من كل دواء . ولكنها تحاول أن تضمد بعضها. كم بكت داخل غرف حوشها الكبير في صمت وكم توجعت وتالمت بلا ضجيج. رحل جل الذين احبتهم وافنت عمرها من أجلهم وبقيت شبه وحيدة في هذا الحوش الذي كلما عصفت فيه رياح الشتاء القارس استيقظت أشجانها فاصطكت ركبتاها المكدودتان،وخفق قلبها المرهق وجلا من ايام مشؤومة قادمة لا محالة.. أولادها الخمسة فر ثلاثة منهم إلى فر نسا لا يطلبون ثروة بل عيشا يحميهم غائلة الفقر والحرمان. اما ابناها الاكبران فقد تزوجا وظلا قريبين منها يملأ أولادهما البيت عليها نهارا ولكنهم يتركونها في الليل وحيدة تجتر ذكريات ماض لا تكاد تخلو من صورة زوجها.. آه لذلك الزوج. لقد عز عليه أن يقضي معها رحلة ارذل العمر. هاجمه المرض على حين غرة. فما هي إلا سنوات قليلة حتى قضى عليه وسط حيرة الجموع. استغربوا كيف لرجل طيب مثله ان يحزم حقائبه سريعا . في غمرة العواطف المنثالة انثيال الكلمات ينسى الناس أن الأجل لا صلة له بالطيبة والخبث. يريدون أن يموت الشرير باكرا و يظل من يعتبرونه طيبا حيا يستمدون منه القوة ويقضي لهم شؤونهم إلى أن يفقد السيطرة على أقواله وأفعاله!..الاكيد ان هذين السببين يفسران الحزن الكبير الذي أصاب هذه المرأة المكافحة
لفقد زوجها. فهي تعرف ان اولاد اليوم ليسوا كأولاد الأمس وزوجاتهم لسن ك"كنات" الأمس. حتى البنات المعروفات بفيض عطفهن التهمتهن مصاعب الحياة. فلم تعد ابنتها الوحيدة الموظفة تزورها إلا نادرا و كثيرا ما يكون ذلك خلال أيام العطل حيث تبيت معها ليلة اوليلتين ثم تتركها وحيدة تمتص رحيق الذكريات حتى إذا تذكرت وحدتها بين تلك الجدران المخيفة الحزينة سألت دموعها انهارا. وما هي إلا دقائق حتى تذكر بعض سور قصار حفظتها أيام محو الأمية. فإذا بها تحس بأن رب الفلق سيحميها من شر ما خلق . وتظل تردد هذه السور إلى أن تنام نوما عميقا كثيرا ما حرمها أداء صلاة الفجر في وقتها.