لازال الليل يكبر في ذاكرتها عندما شق فكرها ذكريات الأمس القريب ، و أطل عليها ذاك الوجه المخادع مرة أخرى .
كان كاتبها المفضل ، حين يرسم بحروفه شكلا للحياة و آخر للمساكين و المضطهدين فترى فيه راسما معنى الخلاص ، بل يزداد إعجابها به حد الدهشة
حين يتحدث في الأمسيات الثقافية فيبدو متمكنا من أغوار الحياة البشرية . يتكلم فينبض قلبها طمعا في حبه .
كانت ترى فيه هو المخلص للمقهورين و المضطهدين على هذه الأرض ، و كثيرا ما كانت ترن نواقيس الحنين بين دروب وجدانها فينزف جرحها الغائر على وقع الشجن
تتذكر حديثها الأول معه حين صارحته بإنها معجبة بفكره المتوهج الذي خطف عقلها ، يومئذ بادلها الحب بالحب و أكد لها وقوفه اللامشروط معها .
لكن للقدر أساطير و ها هي المرأة تصارع حاضرا مريرا و مغايرا لكل الأمنيات التي بنتها بالأمس القريب ، فأخذت تتحادث مع شخصية وهمية في مخيلتها
منير يا أملا انقلب الى سراب ، كثير من الناس اعتقدوا أنك المنقذ و أنك إذا تزوجت ستختار إمرأة تشبهني على الأقل، لكن الأمر لم يكن كذلك
إذ أن خطيبتك هذه صغيرة السن ، حلوة شقراء ، صحيح هي مشروع زوجة ستكون أكثر ذكاء مني لأنها استطاعت أن تروضك و تجعل منك خاتما في أصبعها
هي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها ، لكن ربما أنا بنت الأربعينية أوج الشباب و حلاوة الحب و العشق ، تعرف الكثير عن دروب الحياة .
قد أعتني بك أكثر منها و أحبك بشكل جنوني حبا صادقا يقطر حلاوة الحياة ، الأكيد هي لن تخلخل أعماقك كما سأفعل، ربما أخطأت الطريق و أضعتني الى الأبد .
لقد التقيتها اليوم صدفة عند رأس الدرب ، فسألتني عن محل بائع الذهب ، لن أخفيك بعد أن تظاهرت أني في طريقي اليه رافقتها فكانت فرصة لحوار طويل و عريض
استكشفت من خلاله كل أخبارك و كل مشا ريعك المستقبلية ، فتبين لي أن كل ما كنت تقوله من أجل المستضعفين و المهمشين و من أجل حقوق المرأة
و حقوق الإنسان كان مجرد خرافة و مجرد صيحة عابرة ، بل مجرد كلمات رنانة بعيدة كل البعد عن حقيقتك المرعبة . و من خلال ذاك الحوار المقتضب
مع خطيبتك الحسناء.
أحسست أنكم معشر الرجال في عمومكم تتقنون فن المراوغة ، تبنون من الوهم أروع حياة ، اكتشفت أن كل ما رسمته لي يوما من أحلام أعدت رسمها بشكل
منمق مع زوجتك الموعودة .حكت لي كل التفاصيل حتى الصغيرة منها ، حكت لي عمن يكون فارس أحلامها ، و أكدت لي أنه كاتب كبير يعيش مأساة قومه
و يدافع عن الإنسانية جمعاء بغض النظر عن الجنس و العرق و الدين ، هو كاتب كوني عابر للقارات . و قالت لي أيضا أنك لا تحب الظلم و أنك في خندق واحد
مع المظلومين أحسست بأنك تتقن لعبة النصب و الإحتيال .تأكدت أنها لا تعرف شيئا عن علاقتنا ، لا تعرف أنك نغزلت في أحضاني بشكل جنوني و كنت أنثاك المفضلة
و فعلت بي الأفاعيل بكل أصنافها .كانت نظراتها تعبر لي عن التقدير و الإعجاب مع أن الخطيبة لا تنظر الى عشيقة خطيبها بهذا الشكل المحترم.
و ها أنت الآن تخفي محطة من عمرنا الجميل لقد وددت أن أخبرها بكل تفاصيلك و بأنك كاتب كبير . وددت أن أحكي لها عن كل شيء
حتى اللحظات الصغيرة التي قضيناها معا . لكن وصولنا الى محل بائع الذهب جعلني أتراجع و أتمنى لها حياة أفضل ، و مع قرارة نفسي تيقنت
أن للكاتب عوالم مفعمة بالنفاق و الخداع ، و بأن أغلبهم يكتبون ما لا يفعلون . لقد افترقنا ذات مساء لازلت أذكر ، كنت بلا قلب و بدون روح
و أنا أودعك ذاك المساء لكن سكنت ساحة غربتي المعتمة، و ها أنا كلما جاء الليل أتذكر فراقنا أكثر مما أتذكر لقاءنا ...