كانت سلمى طالبة جامعية في أوائل عقدها الثالث،
جميلة، و مثيرة أيضا.
كانت كثيرا ما تتردد على المكتبة الجامعية ؛تمكث بها لساعات طوال ؛ تحضر بحوثها أو تقرأ شيئا مما تستهويه ذائقتها.
أما الأستاذ أحمد،فكان رجلا خمسينيا، كثير الإنزواء، وحيدا ، فمنذ أن فقد زوجته ،فقد الحب والوطن ولم يبق له سوى أنّات ألم...
فهو لا يرغب في الحديث كثيرا إلا إذا اقتضت الحاجة لذلك.
إعتاد الجميع على رؤيته كذلك منذ أن وطأت قدماه الجامعة؛
و لم يتجرأ أحدهم على إقتحام حياته الشخصية ما عدا سلمى التي كثيرا ما كانت تتصنع الفرص لتقترب منه بحكم تفوقها في المادة التي كانت تتلقاها على يديه.
كانت تكثر ملازمته خارج دوامه، تتحجج بأسئلتها النقاشية؛ تسعى من وراءها لتدشين أواصر التواصل بينها وبينه...فلا يمتلك الأستاذ أحمد إلا تلبية رغبتها و مطاوعة أفكارها البالية في بعض الأحيان.
أسدل الليل ستائره، و راح الكل يغط في نوم عميق؛ انكفأت سلمى على نفسها، استندت على الوسادة
و هي تزحف بعينيها على الجدار، توقفت عند النافذة .. هناك... حيث خيل لها طيفه ؛ تضاربت بداخلها المشاعر و الأحاسيس...خواطر كثيرة تموج بداخلها و هي كقطرة ماء تتفتت على صخرة.. تائهة و حائرة في أمر هذا الرجل الذي قلب كيانها...و غاصت عميقا في حلم أنيق مثل كلماته، غامض مثل حديثه.
أشاحت بوجهها نحو السقف محاولة لملمة شتات نفسها، أرادت أن تنسى الفكرة...لكن شيئ ما بداخلها يقرع ايقاع نبضات قلبها فيرتعش جسدها و كأن نسمة باردة لامستها،
تنهدت بعمق و هي تتحسس التغيرات التي تحدث بجسدها و تساءلت في سرها:
كيف له أن يحتلها و يسحب قلبها منها بكل هذه القوة؟
زاد خوفها، عندما تنبهت لفارق السن بينهما و تذكرت صديقتها و كاتمة أسرارها... كم كانت تخشى عليها من تهورها ...تتذكر حين حذرتها ، وهما تحتسيان فنجاني القهوة على قارعة مقهى الجامعة (كوفي شوب مصغر) و هي توصيها بصرف النظر عما يدور في خلدها....
كم تكره صديقتها و هي تفرض عليها التوجيهات.
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لسلمى...إنه الأمل الذي يسكن فؤادها منذ ان تعرفت عليه عن قرب .
هذا الأمل الذي تخبئه في نفسها، يذكرها، حينما منحها الأستاذ أحمد أعلى العلمات بيد أنها لم توفق يومها في الإمتحان....
تاهت و هي تراه يقترب من طاولتها و هو يعلن أمام الجميع:أحسنت سلمى،أنت الأولى كالعادة.
اضطربت و اهتزت و كأنها أرض تلقت قطرة المطر الأولى، تماسكت قليلا؛ تأففت و لاذت بالصمت و قليلا من الثبات، و ابتسامة حرجة معلقة على زاوية شفتيها متسائلة حينها:أكان ذلك من باب رفع معناوياتها أم ثمة سر يخفيه أستاذها.
يومها فقط أدركت أنها تعشقه،تعشق صمته، كبرياءه و حديثه و كل شيئ فيه.
ذات صباح و على حين غرة؛تزامن وجودهما في المكتبة.
كان الأستاذ أحمد منشغلا في عمله يحتسي فنجان قهوته ، يفرك جبينه بين الحين و الآخر ، يثبت نظارته كلما تدحرجت فوق أنفه.
أما سلمى فلم تكن تهتم لشيئ غير مراقبته عن كثب ؛صار الوقت مملّا بالنسبة لها وهي تشعر بضجر عميق.
إحتارت كيف تجذب انتباهه لوجودها..فكرت ثم فكرت
ثم ضحكت في سرّها، لما خطر لها أن تشتري له هدية جميلة،لا تعلم كيف بنت هذه الفكرة في رأسها....إنه الجنون الذي ينتابها أحيانا.
ركضت مسرعة نحو الخارج و هي توزع بعض الهمسات في خفوت:أرجوك لا تغادر ...ليس الآن ....إبق من أجلي....سأعود إليك.. وتوارت خلف الأبنية لتعود بعد ساعة زمن تحمل هدية جميلة.
فقدت سلمى ابتسامتها فجأة و هي تلمح أحداهن تجالس أستاذها ..كانا في غاية الانسجام ..يتبادلان همهمات توحي بتقارب جلي بينهما...
صعقت سلمى للمنظر المفاجئ و صاحت في سرها:تبا!! من تكون هذه؟؟لا هي بطالبة و لا أستاذة على حد علمها ...بل امرأة في كامل زينتها و أناقتها يفوح منها عطر باريسي عبق الأرجاء كلها...لابد أنها زميلة قديمة أتت لزيارته بالجامعة.
تطلعت سلمى ببؤس إليهما و همت بالاعتراض على جلستهما الحميمية كما ترائ لها... لولا صوت بداخلها أوقفها وترجاها أن لا تندفع
فابتعدت لتبدد ظنونها و تشتت بصرها لأي شيء لا يجمعها بهما ، لكن بين الرغبات أقدار متضادة.
لم تكن تريد أن يراها أستاذها و هي تعتصر ألما لرؤيتهما معا،
و إن كان في الحقيقة يتحسس نظراتها في ظهره.
قبعت مكانها تلاحق تحركاتهما إلى أن استأذنت تلك المرأة بالمغادرة و هي تسلم عليه بحرارة.
شعرت سلمى بقشعريرة في جسدها و توقف قلبها كما توقفت أفكارها و هي تراه بالكاد يفتك يده من يد تلك المرأة...ثم عاد منكبا على عمله بصمته المعتاد.
تقدمت سلمى نحوه محاولة اقتحام خلوته و قد ترنحت على شفتيها إبتسامة غرور، تبعتها كلمة إطلقتها كسهم ناري إخترق صدره... كادت أن تزلزل حصنه المنيع:ألا أبدو أكثر جمالا و شبابا منها؟
استدار الأستاذ أحمد ليتطلع بدهشة لوجه سلمى المتوهج.. يلمح إبتسامتها المرتبكة..يشعر بالخوف عليها.
تراجعت سلمى إلى الخلف و مسحت زوايا القاعة بعينيها لتتأكد من خلوها إلا منهما ثم أضافت بجرأة شديدة:ألا يعجبك شكلي؟؟...
ألا أبدو حسناء في نظرك؟؟
وللحظة عم الصمت بينهما ..تفرسها الأستاذ مستغربا.. بدت سلمى متوهجة ؛تغزوها أنوثة ثائرة.
و لوهلة تخيلها الأستاذ أحمد تعرض عليه جسدها المكتنز الذي برز منه صدرها الذي يرتفع ويهوي سريعا أمامه.. شعر بالرعب..
عادت إليه صورة ذلك الطفل الذي انسابت أمام عينيه ذكرى أليمة كانت سببا في بؤسه.
تبادر إلى ذهنه حين استيقظ ذات خريف على وقع خطوات والدته بكعبها العالي و هي تهم بوداعه لتهجره إلى أحضان رجل آخر غير والده المتوفي في حادث سير...يومها.. لا أحد آنس خيبته، و لا احتضن روحه، ولملم دموعه الحزينة..كم يشتاق إلى حضنها...
فاندفع دون قصد منه،يريد أن يحتضن سلمى؛لا يدري، ألتهدئتها أم لرغبة جامحة في عناقها و صرف آهاته الدفينة.
لكنها ردعته وبصوت غاضب أوقفته..
سألته بعنف:ماذا تفعل؟أجننت؟؟ متفادية الإجابة.
توقف مصدوما بجرأته...لم يكن بذلك المحترم الذي يوهم الناس بوقاره... فكرت سلمى.
تسمر في مكانه، و هو يقاوم تدفق أنوثة سلمى شيئا فشيئا..
ظن أنه بحاجة لسيجارة فاندفع خارجا إلى حديقة الجامعة ، يلعن تصرفاته الطائشة.
بينما غادرت هي القاعة بعد أن رتبت هندامها في هدوء..