السؤال
أعلم أنه يحرم المزاح بالكذب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم ، ويل له ) رواه أبو داود . لكن ما شأن الرواية التالية ، هل هي صحيحة : يبدو أن النعيمان كذب ، وقال بأن سويبط بن حرملة كان عبدا ، وتقول هذه الرواية أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك على ما قام به النعيمان . ذهب أبو بكر وبعض الصحابة في قافلة تجارية للبصرة ، وقد تم تكليف العديد ممن هم في القافلة ببعض المهام المحددة ، وكان سويبط بن حرملة مسئولا عن الطعام والمؤن ، وكان النعيمان أحد أفراد الجماعة ، وفى طريقه شعر بالجوع ، وطلب من السويبط بعض الطعام ، فرفض السويبط ، فقال له النعيمان : هل تعلم ماذا يمكنني أن أفعل معك ، وأخذ يحذره ويهدده ، لكن السوبيط أصر على الرفض ، فذهب النعيمان إلى جماعة من العرب في السوق ، وقال لهم : هل ترغبون في عبد قوي وجلد يمكنني أن أبيعه لكم ؟ فأجابوا بالإيجاب . فأكمل النعيمان : إنه عبد له كلام ، وهو سيقاومكم ، ويقول لكم إني حر ، لكن لا تسمعوا له . فدفع الرجال ثمن العبد عشر قلائص ( قطع ذهبية ) وقبل بها النعيمان ، وبدا أنه سيتم الصفقة بكفاءة تجارية ، وصحبه المشترون لجلب العبد ، وقال مشيرا إلى السويبط : هذا هو العبد الذي أخبرتكم عنه . فأمسك الرجال بالسويبط ، وأخذ هو في الصياح مدافعا عن حياته الغالية وعن حريته ، وقال : أنا حر ، أنا السويبط بن حرملة . لكنهم لم يلقوا له بالا ، وسحبوه من رقبته كما كانوا سيفعلون مع أي عبد . وفى أثناء ذلك لم يضحك النعيمان ولم يحرك ساكنا ، وظل هادئا تماما ، بينما كان السويبط يحتج بمرارة ، وبعد أن أدرك أصحاب السويبط في السفر ما يحدث أسرعوا في إحضار أبي بكر قائد القافلة الذي ذهب جاريا بأسرع ما يمكنه ، وأوضح للمشترين ما حدث ، ولهذا قاموا بإطلاق سراحه ، واستعادوا نقودهم ، ثم ضحك أبو بكر بشدة ، كما فعل السويبط ، والنعيمان ، وعندما عادوا للمدينة ورويت القصة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ضحكوا جميعا . وجزاكم الله خيرا .
الجواب
الحمد لله.
هذه القصة جاءت من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت :
( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى بُصْرَى ، وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ ، وَكِلَاهُمَا بَدْرِيٌّ ، وَكَانَ سُوَيْبِطٌ عَلَى الزَّادِ ، فَجَاءَهُ نُعَيْمَانُ ، فَقَالَ : أَطْعِمْنِي ، فَقَالَ : لَا ، حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ رَجُلًا مِضْحَاكًا مَزَّاحًا – أي كثير الضحك والمزاح - ، فَقَالَ : لَأَغِيظَنَّكَ . فَذَهَبَ إِلَى نَاسٍ جَلَبُوا ظَهْرًا ، فَقَالَ : ابْتَاعُوا مِنِّي غُلَامًا عَرَبِيًّا فَارِهًا ، وَهُوَ ذُو لِسَانٍ ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ : أَنَا حُرٌّ ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَارِكِيهِ لِذَلِكَ ، فَدَعُونِي ، لَا تُفْسِدُوا عَلَيَّ غُلَامِي ، فَقَالُوا : بَلْ نَبْتَاعُهُ مِنْكَ بِعَشْرِ قَلَائِصَ – أي : عشر نوق ، جمع ناقلة - . فَأَقْبَلَ بِهَا يَسُوقُهَا ، وَأَقْبَلَ بِالْقَوْمِ حَتَّى عَقَلَهَا ، ثُمَّ قَالَ لِلْقَوْمِ : دُونَكُمْ هُوَ هَذَا ، فَجَاءَ الْقَوْمُ ، فَقَالُوا : قَدْ اشْتَرَيْنَاكَ . قَالَ سُوَيْبِطٌ : هُوَ كَاذِبٌ ، أَنَا رَجُلٌ حُرٌّ ، فَقَالُوا : قَدْ أَخْبَرَنَا خَبَرَكَ ، وَطَرَحُوا الْحَبْلَ فِي رَقَبَتِهِ ، فَذَهَبُوا بِهِ ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأُخْبِرَ ، فَذَهَبَ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ ، فَرَدُّوا الْقَلَائِصَ وَأَخْذُوهُ . فَضَحِكَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا )
رواه أحمد في " المسند " (44/284) وهذا سياق لفظه ، وابن ماجه في " السنن " (رقم/3719) وغيرهم جميعهم من طريق زمعة بن صالح عن الزهري .
وزمعة بن صالح هذا ضعَّفه أهل العلم ، قال فيه الإمام أحمد : ضعيف . وقال فيه أبو داود : لا أخرج حديثه . وقال البخاري : يخالف في حديثه ، تركه ابن مهدي أخيرا . وسئل أبو زرعة عنه ، فقال : لين واهي الحديث ، حديثه عن الزهرى كأنه يقول : مناكير . وهكذا أجمعت كلمة المحدثين على تضعيف حديثه . انظر: " تهذيب التهذيب " (3/339)
ولذلك ضعف الحديث البوصيري في "مصباح الزجاجة" (4/115) والشيخ الألباني في " ضعيف ابن ماجه " وهذا الحكم أصوب من حكم الحافظ الذهبي على الحديث في "السيرة النبوية مقدمة تاريخ الإسلام" (ص/136) بأنه حديث حسن .
ثم إن هذا الحديث الضعيف يخالف ما ثبت في الشريعة من تحريم ترويع المسلم وتخويفه ولو كان على وجه المزاح واللعب ، كما روى ذلك عبد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ ، فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) رواه أبو داود (رقم/5004)
ورغم تضعيف قصة نعيمان وسويبط فقد أجاب عنها العلماء على فرض صحتها ، وبينوا أنها لا تدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لترويع المسلمين بالمزاح ، ونحن ننقل ههنا كلامهم لمزيد الفائدة ، وإلا فضعف الحديث يغني عن الجواب عنه .
يقول أبو جعفر الطحاوي رحمه الله :
" إنما في الحديث ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك الفعل حولا ، كمثل ما قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون بأمور الجاهلية ، فيضحك أصحابه من ذلك بمحضره من غير نهي منه إياهم عن ذلك ، وإن كانت تلك الأفعال ليس بمباح لهم فعل مثلها في الإسلام
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من ترويع المسلم – فذكر حديث السائب " لا يحل لمسلم أن يروع مسلما " - فكان ذلك تحريما منه لمثل ذلك ، ونسخا لما كان قد تقدمه مما ذكرناه في هذا الباب مما تعلق به من تعلق ممن يذهب إلى إباحة مثله إن كان مباحا حينئذ " انتهى.