تقول القصة .. إن عبد الرحيم قدم استقالته للشركة التي عمل فيها مهندسا معماريا طيلة أربعين عاما. حيث قبلها إبن صاحب الشركة على الفور .. ولكنه طلب منه أن يقوم بأخر مشروع له للشركة .
كانت مبررات عم عبد الرحيم ، إنه قد كبر ويريد أن يقضي بقية أيامه مع زوجته وابنائه وأحفاده في المدينة التي يعشقها.
وافق عبد الرحيم على عرض أبن صاحب الشركة حيث أن موقع المشروع يقع في مدينته الحبيبة ، وبذلك يذهب للعمل ويعود لاسرته واصدقائه القدامى في المساء.هكذا ظن .
ولكنه ما أن بدأ في وضع تصور المشروع لم يجد أي وقت يقضيه مع من يحب أو أن يستريح فيه .
فهذا أخر مشروع له في حياته العملية الطويلة والحافلة بالإبداعات .. فأراد أن يضع عصارة فكره وأبداع خياله ..و كوداع له . أو يثبت لأبن صاحب الشركة .. أنه أقترف خطأ عندما أبعده فترة طويلة عن تصميم أي مشروع طيلة أخر خمسة سنوات . قضاها في تدريب المهندسين الشباب الذين يكنون له كل حب وتقدير.
وتذكر عبد الرحيم في أواسط شبابه ، كيف كان يصمم وينفذ مشاريع تغير من شكل المدن والشوارع . وكيف كان مرغوبا على الدوام وأن وجوده في الشركة كان هو السبب الرئيس في ارساء العطاءات الحكومية والخاصة عليه .. ولم يكن صاحب الشركة يبقيه في العمل فقط من أجل هذا .. لقد كانا اصدقاء منذ وهما طالبين في جامعة الخرطوم .. كلية الهندسة .
كان عبد الرحيم يحب أن يرى تصاميمه واقعا يزين المدن المختلفة في بلاده الفسيحة . دار القضاء ، ونادي الخريجين ومسرح المدينة ، وأسواق الثريا .. وكلية العلا وحدائق طابة وووو وغيرها من المعالم التي تسعد الجميع ..
كان يحلم بأن يخلد أرثا يجامح خيال الأدباء ويضاهي عراقة الأجداد.. وتذكر كيف كان صاحب الشركة يدنيه منه ويسعد بأفكاره ويترك له كل الخيار في أي شيئ يراه .. لا يحد من ميزانية ولا يقلل من عبقرية. لقد جمعت بينهما صحبة من نوع نادر.
أما بعد أن مات صاحب الشركة وتولى أبنه الشاب الذي بدأ شيئا فشيئا يبعده عن محور الأحداث.
كان يحزنه قيام بنايات طويلة قبيحة تزحم الطرقات وتعاند الضياء .. السوق يريد كذا .. اصبح العالم سريعا .. لا يهتم لفكر أو روح .. فقط محلات تجارية واجهات زجاجية أزقة ضيقة .. هكذا كان يخبروه.وهكذا كان يشعر.
أما وأن أتيحت له الفرصة بعد سنوات كأخر مشروع له ، كان عبارة عن قصر لأبن صاحب الشركة .. أخيرا شعر بأن هذا الفتى يقدر فنه وابداعه وخياله ... ترك له كل شيئ قال له .. يجب أن تبني لي قصرا بديعا ولا تكترث لمال ولن يناقشك أحد في أفكارك أو رؤاك.
لذلك تحمس عم عبد الرحيم .. وبدأ يتصور ويصمم ، لقد استغرف وقتا كثيرا في التصاميم .. بدأ طلابه ومحبيه في الأشفاق عليه ..تسرب لهم بأن عم عبد الرحيم قد لا يتمكن من وضع تصميم متكامل بعد أن أبتعد عن العمل لأكثر من خمس سنوات ... ولكنه استطاع بعد مدة طويلة أن ينتهى أخيرا من التصاميم ثم شرع ينفذ. يوما بعد يوم يتضح شيئا .و كان أهل المدينة كل بضعة أيام ، يرون عجبا .. ما أفسحه من قصر .. ما أروعه من بنيان .. وهكذا .. حتى ما أجمل حدائقه ما أروع بركه .. ما أشهق نوافيره .. ما هذا البهو .. ما هذا الشموخ .. ما هذا البهاء.
حتى أن محافظ المدينة عندما يمر بطريق القصر يتوقف عنده . ثم يدخل يتفقد من يعمل وينظر باعجاب ..
أنتهت التحفة المعمارية ..
وتعجب أبن صاحب الشركة من روعة القصر .. شيء اسطوري شعر بأن ارواح تهراقا وبعانخي واماني تيري تنساب في بهوه .. ما كل هذا الجلال .. الناس تطوف بالقصر فاغرة أفواها .. صوت أقدامهم في البلاط اللامع وصدى همهماتهم مصحوبة بهدير بزخات النوافير كأنها جيوش المهدي تخرج من باطن النهر محررة الخرطوم. صفقات أوراق الشجر كأنها ترانيم خالدة تشجي القلوب.
شيئ من عراقة .. وشيئ من حداثة .. وشئ من قيم وارث وبساطة ..
جمال .. جلال فخامة .. ضيافة .. سرور .. كرم .. أصالة
تدخل من بهو وتخرج من قاعة .. تدخل في غرقة وتشرف على حديقة . .. تحس بخليط من تلكم الأشياء ..
كانت مدينة عبد الرحيم .. تعود وتعود زراافات ووحدانا .. صبية ونساء ورجال شيب وشباب .. يشهدون هذا الصرح .. يعنيهم .. هكذا شعروا .. أنهم يرون احلامهم وحكاياهم في هذا المكان ..
كان عم عبد الرحيم يسعد بنظرات وعبرات الناس .. وهنا شعر بالرضا... ولكن
اقام أبن صاحب الشركة حفلا لافتتاح القصر .. أمه أمة من الناس أعيان البلدة ، المحافظ ومعاونوه .. عم عبد الرحيم وأبناؤه واحفاده...
أكل الجيمع وشربوا وتمتعوا بأمسية خالدة من أمسيات المدينة الرائعة .. النسيم العليل يمر بحدائق القصر فيأخذ من عبيرها وشذاها و من نوافيرها شيئ من نداها . ثم ينساب على الوجوه السمر الوضئية فيطريها ويحيحها ويأخذ من بسماتها وحياءها ثم ينداح مبتهجا معطرا كل المدينة.
في الختام ..
وقف أبن صاحب الشركة ألقى كلمة مقتضبة حيا فيها الضيوف ،، وشكر عم عبد الرحيم على هذا الأبداع وعلى كل السنين التي قضاها في شركتهم.. ثم أتجه نحو عم عبد الرحيم المحاط بأسرته السعيدة .. وقال هذا يوم وفاء .. ثم أخرج مفاتيح القصر من جيبه وقدمها لعم عبد الرحيم .. هذا القصر هو هدية من الشركة لك ولأسرتك على خدمتك الطويلة وكل ما فعلتها من اجلها.. وقبولك لهذه الهدية يسعدني ويسعد والدي لأنه أوصاني بذلك.
خرجت أصوات شاهقة سعيدة من الجميع ، بينما أنخرط عم عبد الرحيم وأسرته في بكاء لا يعلم مداه إلا الله.