كان مساء يوم خريفي ساحر من شهر أكتوبر عندما صعد فراس و صديقه سالم أعلى التلة المطلة على ذلك البيت الكبير الواسع..
أحاطت الطبيعة الخلابة بهذا البيت فأعطته مشهداً يكاد المرء لا يرى مثله إلا في حكايات الأساطير و الخرافات القديمة , تهدأ الروح أمام جماله وتصيب النفس غرابةً و دهشةً أمام بريق هندسته و عظمة إنجازه ..
يروي أهل المنطقة حكايات كثيرة حول هذا البيت والذي هو بالوقت الحاضر خالي من سكانه بل أكثر من ذلك هو خالي تماماً من جميع مظاهر الحياة و كأنه مكان مهجور يصارع خيبات الزمان العاتية بشيء من التعالي و الصمود ..
يقول أحد القاطنين الحاليين في المنطقة أنه عرف من جده أن هذا المنزل كان يعود في الماضي إلى عائلة ثرية عريقة اشترته و سكنته منذ أكثر من 300 عام و أن أجيال العائلة توارثته فيما بعد و تعاقبت على العيش فيه ، و كان آخر من سكنه من ورثة هذه العائلة هو السيد صفوت , كان ذلك منذ حوالي 20 عاماً و لا أحد يعرف تماماً أسباب تركه للمنزل و أين هو الآن و ماذا حل به ؟!
يقول من عرف السيد صفوت في ذلك الوقت أنه كان إنطوائياً في آخر أيامه , اعتزل الناس و اعتكف داخل المنزل الكبير , و كان فقط هناك رجل واحد من أهل البلدة اسمه سعفان يزوره بشكل شبه يومي , يؤمّن له حاجاته و يطمئن عليه و ذلك بناءاً على رغبة السيد صفوت نفسه ..
فراس لصديقه سالم:هل تعلم يا صديقي ما هي أمنيتي الآن ؟
سالم: ما هي؟ بماذا تفكر يا شقي؟ (قالها وهو يبتسم ابتسامة ماكرة).
فراس: أدفع عمري و أدخل هذا البيت و أراه من الداخل.
سالم:ههههه, بيت قديم متهالك , أهمله أصحابه لسنوات طويلة , لن تجد سوى الغبار و العناكب و الروائح النتنة العفنة.
فراس: لا يهم ذلك , المهم أن أشبع رغبتي المكبوتة و جنون روح المغامرة عندي.!
هل ستأتي معي ؟
سالم (باستغراب و دهشة): لا تكن أحمقاً يا فراس , أرى أنك تعني ما تقوله , لا أريد أن نتورط في أمر مخالف للقانون أو نعرّض حياتنا للخطر.!
فراس: هيّا يا سالم , لا تكن جباناً , لن يحصل شيء إن شاء الله , لا تكن سخيفاً إلى هذا الحد .!
سالم: لست مندفعاً لهذه المغامرة , هذا البيت مهجور و قد يكون الآن مكاناً عابثاً تسكنه العفاريت الملعونة و الأرواح الشريرة .!
انسى أمره يا صديقي و دعنا نجد تسلية أفضل .!
فراس (باصرار): تبدو خائفاً و أنا لست كذلك , سأدخل هذا المنزل الواسع اليوم عند منتصف الليل و سأروي لك في صباح اليوم التالي ما حدث معي , أراهن أنك سوف تشعر بالخيبة و الندم لأنك لم تشاركني مغامرتي هذه .!
سالم: لا يا صديقي لا تفعل ذلك أرجوك , أخشى أن يصيبك مكروه ما.
فراس: لا تقلق يا سالم , سيكون كل شيء على ما يرام , لقاؤنا سيكون هنا أعلى التلة بعد شروق شمس الغد , لا تتأخر , سوف تستمتع و أنت تسمع مني ما جرى معي من أحداث في ذلك البيت الكبير المهجور..!!
افترق الصديقان بعدها و انطلق كل إلى وجهته المنشودة على أمل أن يلتقيا صباح اليوم التالي كما هو متفق عليه ..
سالم: هل أنت متأكد يا فراس مما ستقوم به ؟
فراس (ضاحكاً): أجل يا صديقي , سأنتظرك هنا من على قمة التلة غداً صباحاً بمشيئة الله , إلى اللقاء الآن يا سالم..
سالم : كن على حذر.! رعاك الله يا فراس , إلى اللقاء يا صديقي العزيز..
في صباح اليوم التالي , كانت أوائل خيوط الشمس الناعمة تلامس بسخاء وجه سالم الصغير , والذي هبّ منتصباً ليغادر فراشه الطري و يرتدي ملابسه على عجل , عليه أن يكون هناك , فصديقه فراس سيكون قد سبقه بلا شك , المهم الآن بالنسبة لسالم هو أن يطمئن على صديقه ثم يعرف منه تفاصيل مغامرة منتصف الليل في ذلك المنزل الملعون ..
استقل سالم دراجته و انطلق وسط الحقول البديعة الهائمة حيث أشجار الخريف تعلن في هذا الوقت من السنة ولاءها التام للطبيعة , قتنصاع لها و تمنحها أوراقها البرتقالية و الصفراء , لعلها تفسح مكاناً لأوراق جديدة خضراء تتجدد مع ربيع الفصول ..
وصل سالم التلة , صعد أعلاها, لم يكن فراس قد وصل بعد:
"لا بد أنه ما يزال يغط في نوم عميق الآن , لا بأس سانتظر قليلاً" قال سالم في سرّه ..
أخذ سالم يلهو ببعض الحصى و التي التقطها من على الأرض و هو يحاول جاهداً أن يقتل ملل الانتظار الطويل بينما كانت الأفكار السوداء الهائجة تغزو رأسه وتجتاحه:
"ماذا لو حصل لفراس مكروه؟"
"يجب أن أفعل شيئاً"
"هل أخبر أهل فراس بالأمر؟"
" نعم , هذا أفضل حل , الكبار عادةً يحسنون التصرف في مثل هذه الحالات "
نزل سالم من على أعلى التلة , انطلق سريعاً قاصداً بيت صديقه فراس , كان يدرك تماماً أن صديقه قد يكون في خطر ما و أن عليه أن يفعل ما يمكن فعله حتى ينقذه ..
بعد دقائق ليست بقليلة وصل سالم بيت فراس , ألقى بدراجته أرضاً , أخذ يطرق باب البيت بالحاح و عناد ..
فُتح الباب أخيراً , كانت أم فراس أمامه و هو تنظر إليه في دهشةً و استغراب :
ما بك يا سالم؟ هل أنت على ما يرام؟
خالتي .. خالتي .. أجابها سالم ثم قال:
"هل فراس موجود بالمنزل الآن؟"
"أعتقد ذلك, لقد تركته نائماً في غرفته ليلة أمس , لقد عانى من بعض الحمى طوال الليل , يبدو أنها أعراض الزكام و البرد , هي أعراض شائعة في مثل هذا الفصل من السنة , تفضل يا سالم , يمكنك أن تراه في غرفته" قالت أم فراس و هي تفسح المجال لسالم والذي انطلق مسرعاً نحو غرفة صديقه فراس ..
فتح باب غرفة صديقه بدون استئذان , نظر إلى سرير فراس فكانت المفاجأة ..!!
صديقه فراس مضطجع في فراشه و علامات المرض بادية عليه :
"خير إن شاء الله , ما أصابك يا صديقي ؟ " قال سالم مخاطباً فراس والذي بدا سعيداً لرؤيته :
" لا أدري .. أحسست بحمى و بعض التعب في جسدي مساء الأمس " أجاب فراس ثم أضاف قائلاً:
" أعدّت لي والدتي حساءاً ساخناً , تناولته ثم استسلمت للنوم , يبدو أنني نمت طويلاً "
سالم: لا بأس عليك يا فراس , لقد قلقت عليك عندما لم تحضر إلى مكاننا اليوم كما هو متفق بيننا , الحمد لله أنك بخير ..
فراس: أنا أشعر الآن بأني أحسن حالاً , سوف أذهب اليوم عند منتصف الليل إلى ذلك المنزل الرهيب و أدخله و سيكون موعدنا بإذن الله صباح اليوم التالي في نفس المكان ..
كُن في الموعد يا صديقي , سوف يرضيك ما سوف تسمعه مني عن مغامرتي في ذلك البيت العتيد .