منذ صباح يوم الجمعة وصوت طرق الصحون ببعضها يغلب ضجيج وهمسات ونقاشات العائلة بأجمعها
وصوته تحديدا يملئ ارجاء البيت بضجيج خاص محبب ,,,بعبارات يكررها في كل مرة ...
سلمى هل دقدقت الثوم جيدا ,,, سعاد افرم ِالطماطم بشكل افضل ,,, عبدو املئ ابريق الماء وجهز كاسات الشاي ,,,
بينما الجميع صغارا وكبارا في البيت وحتى الجيران ينتظرون العم أبو عبدو ليعد لهم صحن الفول ((العالمي))
الذي يشتهر في اعداده كل عائلة من بلاد الشام ولكن صحن الفول الذي يقدمه العم أبو عبدو عالمي بشكل لا يوصف
له مذاق خاص وطعم تنختلط مع بهاراته رائحة ماض وزمن جميل وبساطة الأجداد يذوقها لسانك قبل أن يذوق طعم الخل والطماطم والثوم
ويصل إلى قلبك دفء أصالته وكرمه العتيق كالذهب قبل أن تصل لقيمات الفول إلى معدتك ,,,
رائحة ذاك الصحن لها عبق خاص يشمه كل من في البيت منذ أن يضع العم أبو عبدو الوعاء على النار ليسلق الفول
حتى أن تلك الرائحة تفوح حتى تصل إلى نوافذ بيوت الجيران فتدخلها دون استئذان وما هي إلا ساعة أو ساعتين حتى تلحق تلك الرائحة صحن مسكوب بيد العم أبو عبدو لكل جواره
مؤكدا عادة متأصلة بين البيوت العربية يسمونها ((سكبة )) مازالت معششة في نفوس الكرام والاصيلين كمثل ذاك الرجل في طيبته وكرمه وأصالته
العم أبو عبدو جد العائلة الكبير يحبه أولاده حبا جما ويحترمه زوجات أولاده أصهرته ويفتخر به احفاده ,,,
وهو يقطن وحيدا منذ وفاة زوجته قبل أربعين عاما في أكبر غرفة أو أكبر ((فركونة)) في البيت العربي الذي لم يتخلى عنه فهو بيت والده وجده من قبل
ولم يجعل أحد من أولاده ان يخرجوا من ذاك البيت العتيق في إحدى حارات المدينة حيث أنه زوجهم جميعا في ذاك البيت وضمهم تحت جناحيه
وضم معهم ابنتيه وازواجهما واولادهما ايضا فالبيت كبير ويتسع ..
كما هو قلبه الذي أتسع فاجعة موت زوجته مبكرا في حياتهما الزوجية مخلفة له ستة اولاد ...اكبرهم كان في العاشرة من عمره
ولكنه كان على قدر المسؤولية في أن يكون أبا وأما في أن واحد .. وحمل وتحمل وصبر وتصابر حتى كبروا واعتمدوا على أنفسهم وزوجهم وقام بالمهمة على أتم وجه
فألف بين قلوبهم إذ جمعهم تحت سقف بيت واحد وفرض على الجميع منذ أن نشأوا أن يتواجدوا على فطور يوم الجمعة ليتباحثوا في هموم الصغير قبل الكبير
ومع مرور الأيام كانت المائدة تكبر مع كبر أولاد العائلة والهموم تزداد أكثر وأكثر
وحلها من بعد الله عند العم أبو عبدو بخبرته وحنكته ومن ثم تزول الهموم ومتاعب العائلة وتعلو صوت الضحكات مع لقيمات صحن الفول العالمي
الذي صنعه لهم العم أبو عبدو بنفسه وشرايينه وقلبه ,,,
ولكن هذا الصباح هو صباح يوم الجمعة ... نعم هو صباح الجمعة ... ذعر كل من في البيت ,,, أين رائحة الفول المسلوق ؟؟؟
لا وجود لصوت طرق الصحون ,,, لا أحد يدق الثوم ,,, لا أحد يفرم الطماطم في المطبخ ,,, !!!
صوت هدوء غير معهود ’,,,
خرج الجميع من غرفهم مذعورين لتلك الواقعة ... واتجهوا نحو الفركونة الكبيرة خائفين ,,,
دخلوها بحذر شديد ... نظروا إلى سرير الذي تمدد فيه جسده الطاهر ... وجه أبيض مشرأب بالحمرة ضاحك مستبشر وعيون جاحظة نحو السماء ..
صرخ ابنه الكبير طبت حيا وطبت ميتا يا أبي
ومن ثم منهم من أنهار وسقط على الأرض ومنهم من علا صوت بكاؤه ومنهم من انزوى يبكي بحرقة
ولكن الجميع اجمعوا قائلين
لن نأكل الفول بعد اليوم ,,,,