ليست ممن وولدوا وفي فمهم ملعقة ذهب، وليست ممن هم سعداء الحظ يبتسم لها الحظ من دون أي مجهود، وليست ممن تلقوا الدلال من الوالدين والجميع فعاشوا في منتهى الراحة والترف، بل بالعكس ولدت يتيمة ووحيدة ففقدت من كانا من المفترض أن يكونا الأساس لأن تعيش في هذه الحياة وتواجهها بكل قوة وتحدي، فتربت وترعرعت في منزل خالتها، وقد كانت خالتها الوحيدة معروفة بالقسوة والشدة، وبصراخها الشديد الذي ينزل كالصاعقة على قلبها البريء، وتكشيرة وجهها التي توقع السحاب قطعاً من السماء.
كانت تفرز بينها وبين أبنائها، فهم يأكلون، ويشربون، ويلبسون أحسن الثياب، ويتعلمون في أحسن المدارس، أما هي فما كان لها إلا أن تأكل من باقي ما يتركون ويلبسون، أما التعليم فإن ذهبت إلى المدرسة أم لم تذهب فلا أحد يهتم، فخالتها القاسية
تستغل ظروفها لتجعلها خادمة لديها لا أكثر ولا أقل،
فهي تقوم من الصباح الباكر لتعد الفطار، وتغسل الأواني، وتغسل الثياب، وتكنس البيت، وبسبب هذا يضيع الوقت فلا تذهب إلى المدرسة، وعندما تقرر الذهاب إلى الفراش لتنام تصرخ عليها وترمي عليها
الحذاء لتقوم وتكمل باقي العمل وتعد الغداء، وهذا
حالها في كل يوم وكل ليلة، فاض بها الحد وكانت تدعو الله في كل يوم وليلة بأن ينجيها مما هي فيه،حتى أنها بنت علاقة قوية مع الله عز وجل، كانت خلالها تصوم، وتصلي، وتقوم الليل، وتقرأ القرآن، وتكثر من الدعاء والذكر، ولازالت تعاني وتصبر
في كل يوم.
وفي تلك الأثناء جاء شاب خلوق، ومتدين، وبسيط للعمل بالقرب من منزلهم في دكان صغير، لمحها وهي
تخرج من المنزل وتلقي النفايات وهي تدمع تارة، وتارة أخرى تبدو وكأنها جسد ميت بلا روح، ومنذ أن لمحها من النظرة الأولى اقتحمت قلبه، وتربعت
على العرش فيه، فأحبها بصمت دون أن يتحدث أو يقترب منها، وكانت في بعض الأحيان تأتي وتشتري
منه بعض السلع الغذائية، وهو يقرأ الحزن على وجهها
ويفهمه سطراً سطراً، فعلم بأنها تعاني مالايتحمله
حتى أقوى الرجال، ففكر للتقدم لخطبتها من خالتها
وفعلاً تقدم لخطبتها فرفضته تماماً
وقالت: هي هنا لخدمة أهل الدار فقط، وقامت على الفور بطرده، غادر والحزن يملأ عينيه، كيف عساه يصل إلى القمر الذي يراه من بعيد ولا يستطيع الوصول إليه؟!.
مرت الأيام وهو يراها من بعيد ولا يستطيع فعل شيء، حتى أحست هي بكل مشاعره دون أن يتحدثا
مع بعضهما بكلمة، فأصبح التخاطب بالعيون، حتى أنه هو بذات كان يدعو الله عز وجل أن تكون من نصيبه في يوم من الأيام.
وبعد صبر طويل استجاب الله لهما، فأصابها بمرض السرطان الذي فتك بها وماتت على أثره، فكان الباب مفتوحاً أمام الشاب الصالح للزواج منها، وبالفعل
تزوجها ستراً، وحباً لها أما أبناء خالتها
الذين لازالوا صغاراً فقد تزوج والدهم من أخرى لتعتني بهم بعد أن غادروا ورحلوا إلى مدينة أخرى.